بين لبنان ومريم عشق كبير. ليس من بلد يكرم والدة الإله مثل لبنان، ويتوسلها شفيعة له. لا يعني هذا بأنّ إكرام مريم محصور في مكان واحد، دول كثيرة وضعت مريم على اسمها، وجعلتها بدورها أمًّا لها.
لبنان في بيروت ومنها جرح الإنسانيّة والكون. ومريم في رقادها تحمل جرح بيروت بأشلاء الشهداء، بالبيوت المدمّرة، بالناس المشرّدين بذاتها، بل تحمل بيروت ولبنان على رجاء خلاصه ونجاته من براثن الأشرار المحيطين والمحدقين به. مريم ذاقت الجرح البليغ مع ابنها الحبيب يسوع. قال لها سمعان الشيخ سيجوز سيف في لحمك لحظة إدخالها اينها إلى الهيكل، وهذا أعطي نورًا للأمم. قصد سمعان بأنّ الصليب هو السيف، وقد وقفت عند قدميّ يسوع المصلوب تنتحب لآلامه وموته، ولم تدرك بأنّه سيقوم في اليوم الثالث ويسكب عليها فرحًا كبيرًا. نظر السيد إليها وإلى يوحنّا الحبيب الذي كان برفقتها، وقال لها يا امرأة هوذا ابنك، يا يوحنّا هذه أمّك، وللوقت اخذها إلى خاصّته. مريم المنتحبة على وحيدها الإلهيّ، عاينته قائمًا من بين الأموات، إلى أن غدت في رقادها طفلة بين يديه، فوشحها بفصحه وجعله فصحًا حقيقيًّا لها، مع انتقالها من الموت إلى الحياة والسكنى إلى جانبه في الملكوت.
سيرة مريم لم ترد في الكتاب العزيز، فقط متى ولوقا ومرقص. اضاء الإنجيليون على حراكها بغير انفصال عن يسوع، من البشارة حتى القيامة والصعود. يوحنّا الوحيد الذي رافق مريم إلى معاينة المصلوب لم يشر في بداءة إصحاحه كما الآخرين إلى دورها، بل اكتفى بأروع مقدّمة بقوله في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله والله هو الكلمة. ليس في الدنيا أروع من هذا الإصحاح وهو وحده في رسالته الثانية من قال: الله محبّة، وجاء قوله فريدًا لا مثيل له في تاريخ الحضارات والثقافات والأديان.
كل ما روي عن مريم منتم إلى ما يسمّى بالأدب المنحول أي الإيبوكريفا. لكنه أدب راسخ وواقعيّ. ذلك أنّ رقادها تمّ في الجثمانيّة، وبعد دفنها في القبر لم يعثر على أيّ أثر لها، ولم يؤرّخ حتى إذا ما كان بعض من ذخيرتها قد أخذ إلى أمكنة أخرى. وعالمو الآثار بدورهم لم يكتشفوا أيّ أثر لجسدها. هذا دليل قاطع بأن ابنها نقلها إليه. والظهورات التي تنكشف بين الفينة والأخرى دالّة على أن مريم حيّة، وأنا شاهد على إحداها في عائلة والدتي، وبالتحديد مع المرحوم جدي الياس صليبي.
ما يجذبنا إلى السيدة القديسة طراوتها وحنانها ومحبتها. لهذا ينكبّ اللبنانيون على تكريمها. الطراوة والحنان ركيزتا الحبّ العظيم لتلك المتوّجة بالنور. وقد قرأت مرّة نصًا كبيرًا لإمام حبيب فقدته منذ أكثر من خمس سنوات هو السيد هاني فحص، كشف مدى لصوق المسلمين بدورهم بها. لم أجد أبلغ من عباراته لها، وقد اعترف صديق مشترك كبير وهو المطران جورج خضر بأنّه يتحدّى أيّ أسقف أو كاهن أن يكتب عشقه لمريم ببلوريّة فائقة وبمداد الروح كما كتب هاني فحص، هذا الممدود ما المحراب والمذبح.
سفر الرؤيا جعلها واقفة على القمر وجبينها مكلّل بالشمس. لعلّه رمز بالشمس إلى يسوع المسيح. وفي عرس قانا الجليل أقنعت ابنها على الرغم من قوله يا امرأة لم تأت ساعتي بعد، بتحويل الماء إلى خمر. أمومة مريم طهارتها بهاؤها غير منفصل عن ألوهة يسوع، إنها أمومة كونيّة، قد لامسها الأزل وأكرمها ربّها، بأنّ أمست السماء في بطنها فصار بطنها أرحب من السماوات. صارت هي نشيدًا فردوسيًّا في دنيانا لا يدنى منه إلاّ بعفّة قلب وطهارة لسان ونقاوة ضمير. وإن دنونا خاطئين فهي تعطف علينا بأمومتها، وتنظر إلى ابنها الوحيد والحبيب في السماء لتؤيّد غفرانه لنا حتى ندخل مملكة الثالوث القدوس.
قلت لبنان في عشق معها. ما من قرية ومدينة إلاّ وفيها كنيسة على اسمها، أو جعلت القرية أوالمدينة مقرونة باسمها أي بشفاعتها. إنه حب مديد لا ينتهي. واللبنانيون مسيحيون ومسلمون مشتركون بتغبيطها، يكفي أن القرآن الكريم خصّص لها سورة بكاملها. هذا هو جمال لبنان الحقيقيّ حينما نجتمع على حبيبة لنا ونجمع على تكريمها وتغبيطها وطلب شفاعتها.
ومع ذلك، ثمّة مشكلتان لا بدّ من الإشارة إليهما:
1-المشكلة الأولى تعبّر عن استلذاذ عدد كبير من اللبنانيين للفساد. ومريم "بغير فساد ولدت كلمة الله". مع مريم ليس من تخالط بين الفساد وعدم الفساد. المريميّة تلفظه من ضيائها. هذا يعني المسيح بشكل مباشر مثلما يعني مريم. فمن اتخذ مريم شفيعة له فليتحرر من الفساد ويدخل إلى سرّها باتضاع نفس ومحبّة للآخر وتكامل معه، وليس بقدحه وذمّه ومحاربته وقيادة المحتمع إلى المزيد من التشتّت والتمزّق.
2-المشكلة الثانية تعبّر عن حزن مريم لما نفعله بأنفسنا وبإيماننا وهروبنا من معالجة سقطاتنا. مريم المتحركة معنا والشفيعة الحارّة لنا، بقدر ما هي حزينة على مآسي لبنان فهي غاضبة من اندراج اللبنانيين بالشرور والفساد. هي تتوسّل من أبنائها أن يعتمدوا المحبّة عنوانًا للمراحل المقبلة حتى يخلصوا وإلى معرفة الحقّ يقبلوا. مريم متألمة حتمًا على بيروت، وهي رفيقة بكلّ الشهداء الأبرار، وشافية بأمومتها لجميع الجرحى، ترغب إلى اللبنانيين أن يقرأوا ما حدث لهم ليرتقوا من هذه الترابيّة الشريرة والممقوتة ليصير بلدنا مسرى للحبّ والسلام والحقّ.
رسالة مريم إلينا، مختصرة بهذه العبارة، لا تستطيعون أن تحبوا يسوع وتحبوني ولا تحبوا بلادكم وتكرموها بعطاءاتكم. هل نستطيع أن نفهم عمق تلك الرسالة في عيد رقاد مريم؟ ليس همّ مريم أن تسمى الكنائس في القرى والمدن على اسمها، ليس همّها أن يكون لها تمثال في سيدة حريصا في تلّة تعبّر عن الجمال وتطل على خليج جونيه ومساحة كبرى من لبنان ونسميها سيدة لبنان، بل همها أن تلتصق القلوب بها بإيمانها بابنها، همّها أن يصير لبنان سماء ممدودة إلى عمق المشرق، همّها أن نصير جميعنا مريميين. بعد الذي حدث في بيروت، هلاّ لبينا النداء لنخلص فتفرح بخلاصنا؟ قولوا لها في عيد رقادها من أعماق قلوبكم أيتها الفائق قدسها والدة الإله خلصينا لتصير دنياكم نعيمًا ونفوسكم بقداستها سماءً.
"يا والدة الإله العذراء أنت سلوة المحزونين وشافية الفقراء فخلصي شعبك ومدينتك وبلدنا لبنان يا رجاء وثباتًا وسورًا للمطر عليهم، وشفيعة المؤمنين وحدك". بل شفيعة لبنان وحدك، يا والدة الإله العذراء أنقذي لبنان وارحمي شعبه. آمين.