دولة الرئيس،
تجمعني بدولتك مودّة سببها أصدقاء مشتركون، أقرباء في القلب والروح والعقل، وبسببهم اكتشفت، وبحقّ، شفافيّتك وبلوريّتك وصدقك مع نفسك ومع شعبك، لكونك أدركت ما قاله لي ذات مرّة السفير الراحل الحبيب فؤاد الترك، إنّ المسؤوليّة تكليف لا تشريف.
مذ تسلمت رئاسة الحكومة، وجدتك على بهاء نقيّ، عاينته بصورة شخصيّة عند صديقي الكبير والحبيب دولة الرئيس الوطنيّ والنبيل سليم الحصّ أطال الله بعمره، فقلت في سرّي ما أسرّ لي أحد كبار المقرّبين منك، حسّان دياب فرصة لولادة وطن جديد. ثمّ تأكّدت من صدق إحساسي، في اللحظات التي أرى فيها ثغر الليث باسمًا ووجهه راضيًا، فأعرف بأنّ الجبال الشمّاء حين تتلاقى فهي تمنح قوّة للبنان فتنسكب في جوفه ينبوع حياة لا يجفّ ولا ينضب.
على هذا أخاطبك برجاء كبير، عارفًا أن من ارتقى أكاديميًّا نحو القمم المعرفيّة بجهاد العقل، وكبر نفس وبلاغة الروح، يسعى دومًا إلى الجدّة في التكوين، ولبنان الذي تتراس حكومته ران نحو تكوينه على كلّ المستويات المؤسساتية والسياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة، فيما لا يزال تائهًا في صحارى البؤس والفاقة، والمتآمرون لا يأنفون من طعنه في الحراب، وهو معلّق على خشبة عبثيّة فوق جلجلة عدميّة، والقيامة لم تحدث بعد، والحجر لا يزال يغلق القبر، ويقيننا لا يزال يميل إلى أنك وفخامة الرئيس تمتلكان القدرة بوحدانيّة تامّة، لدحرجة الحجر فينهض لبنان معكما متشحًا بالضياء.
وحتّى تكتمل عناصر الرجاء، أرجو من دولتك أن تسمح لي ببضعة ملاحظات جوهريّة، احاول بها الإضاءة على عناصر الأزمة الخانقة حتى الموت، نعم حتى الموت، منتظرًا منك أن تبلورها في رؤيتك من أجل استقامة الحلول المرجوّة في ذروة اللحظات الحرجة التي يمرّ بها البلد.
1-الملاحظة الأولى عنوانها الكورونا فيروس.
يا دولة الرئيس، يطيب لي هنا أن أعلمك، بأنّ مواجهة العهد والحكومة ومعك وزير الصحّة الهمام الدكتور حمد حسن، أدخلتكم إلى القلوب والعقول والبيوت فغدوتم مستوين على عروش ليست مصنوعة من ذهب وماس وفضّة أو نحاس، بل من محبّة فائقة غمركم بها اللبنانيون بكرم وسخاء. وفي أدبياتنا الروحيّة الله محبّة. النصر الذي بدأ يتحقّق على الكوفيد-19 كشف أنكم مالكون لقدرات حقيقيّة لم نرها عند أرقى الدول في العالم، وهذا باعتراف منظمة الصحة الدوليّة. وإذ يا دولة الرئيس يفاجئ بعض الوزراء اللبنانيين بهجوم صاعق مهدّدين بإغلاق البلد كلّه، فيما نسبة الجائعين تخطّت الخطّ الأحمر.
يا دولة الرئيس معظم اللبنانيين التزموا بالحجر الصحيّ، حرموا من التمتّع بالأعياد والمشاركة في الصلوات في الكنائس والمساجد، شركات ومؤسسات ومصانع ومطاعم وفنادق أغلقت، والموظّفون طردوا أو سرّحوا من وظائفهم بلا رواتب في ظلّ فوضى على الأصعدة كافّة، وسعر صرف الدولار يلتهم ليرتنا بوحشيّة فائقة، والغلاء الفاحش والداعر لا يزال يفترس غذاء اللبنانيين ويفرش في بيوتهم الجوع، وثمّة أطفال ينامون من دون حليب،. كيف يمكن يا دولة الرئيس ان يحجر الناس في منازلهم ومن دون رواتب بديلة تسمح للبنانيين بالصمود، لقد تحوّل اللبنانيون إلى حملة كراتين، فيما كانوا كرامًا أعزّاء، هل يليق بهم هذا اللقب؟؟!! أخذتم قرارًا بدفع مبلغ قدره أربعمئة ألف ليرة لبنانيّة، ولا نعرف كيف أقررتم مبلغًا كهذا فيما الأسرة بالحدّ الأدنى تحتاج لمليونيّ ليرة لبنانيّة، لكي تصمد الأسر في البيوت، لا سيّما الفقيرة منها والطبقة الوسطى قد محقت بالكامل.
وما دام عدد من الوزراء يزجرون ويزمجرون، إسمح لي يا دولة الرئيس بالردّ على الزجر والزمجرة، لماذا قبلت أنت بالذات بإدخال طائرة آتية من نيجيريا وعلى متنها 34 راكبًا جميعهم مصابون بالكوفيد -19 ومن حملة شهادة الPCR المزوّرة وأنت بالذات يا دولة الرئيس أبديت خشيتك من ذلك، إلى حين اقتحمكم التهديد من جهة سياسيّة وازنة، "إن لم تأتوا بهؤلاء فإنّ وزراءنا سينسحبون". وحتى لا يفهم كلامي على غير محمله، من واجبات لبنان حتمًا حماية المنتشرين من أبنائه وهذا عمل إنسانيّ ووطنيّ راق، ومعظم من أتوا قبل هذه الطائرة وطائرة أخرى من لندن لم يأبه السيد محمد الحوت لآلات الموت فيها، التزموا بجديّة واعية ورصينة قرارات الحكومة، أمّا الطائرتان الأخيرتان فحدّث ولا حرج. لقد أفسدت الطائرتان الأخيرتان روعة الإنجاز واحتفالنا به وأعادتنا إلى عبوديّة الحجور فيما كنّا على قاب قوسين من حريّة الحياة. ثم نسمع كلامًا مفاده: ثمّة عاصفة أخرى بانتظارنا New waves هلاّ شرحتم لنا رجاء كيف يمكن أن يعصف الكوفيد من جديد، وكيف تعرفون تاريخه؟ وهل أنتم على بيّنة من أن عبوديّة الحجور أوصلت العديد من اللبنانيين وبسبب الخوف والقلق إلى انهيارات وتمزقات نفسيّة وأسريّة، وهل تعلمون أكثر بأنّ التباعد الاجتماعيّ على الرغم من أنه أداة حماية قد تحوّل إلى مسرى للرعب والخوف فبات الفرد جحيمًا للآخر، وبتنا أمام إشكاليّة أخلاقيّة بدأت تطفو على وجه الماء، ترتبط بفهم كلّ واحد منّا للمصاب فيبدو بسبب الرعونة في السلوكيات عند بعضهم منبوذًا ومنزويًا، حتى أن الخائفين المحجورين في البيوت يا دولة الرئيس سيبدون منعزلين عن المجتمع، فما هي خطتكم للخروج من تلك المعضلة الخطيرة للغاية حتى إذا تحررنا من وطأة هذا الوباء لا نغرق في لجّة مجتمع مريض بالكليّة؟
2-الملاحظة الثانية عنوانه الوضع الاقتصاديّ المتأزم
مذ أن تبوأتم رئاسة الحكومة يا دولة الرئيس وأنتم تطالبون وبشدّة باستعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة، وقد بدأتم ببعض الإجراءات التي بدأت تنطلق بصورة تدريجيّة نحو فضح بواطن الأمور وكشفها.
في هذا الباب يا دولة الرئيس ينتابني قلق بسبب استيلاد النهج الحريريّ مجدّدًا بفعل التوجّه إلى صندوق النقد الدوليّ IMF، ومعظم المتابعين يعرفون بأنّ وظيفته مع البنك الدوليّ وضع اليد بالكامل على الدول المفلسة وفرض الشروط عليها، فنصير بذا تحت أيدي أوصياء ووكلاء. هل هذا هو المشتهى أن يتحكّم فينا صندوق النقد الدوليّ، أو البنك الدوليّ، فنظلّ أمامه متوسّلين ومتسولين؟
في هذا المعطى دولتك ومعظم المعنيين على علم بأنّ الحريريّة السياسيّة التي شرّعت الأبواب أمام الاقتصاد الريعيّ غبنت الدولة اللبنانيّة سنة 1994 بأن أدخلتنا في نظام أو ثقافة سندات الخزينة، فعملت منذ ذلك الوقت على إغراء اللبنانيين وإغوائهم بفائدة 48% ففقدنا من هنا الاقتصاد المنتج وحقّقت المصارف أرباحًا طائلة مع بيع السندات إلى الخارج لينطلق لبنان نحو مديونيّة أمست تفوق المئة مليار دولار. مهمتكم هنا التفاوض لكشف مغبونيّة الدولة، ومن ثمّ استعادة الأرباح المحقّقة من جراء بيع السندات، أي المطالبة بال48% وهي فائدة خارجة عن المألوف الاقتصادي، والدكتور غازي وزني كخبير ماليّ اقتصاديّ قبل أن يكون وزيرًا للمال يدرك مآل هذا الكلام. ويقول الخبراء بأنّه وبحال تمت استعادة تلك الأرباح فإننا بدأنا نسير وبحقّ على الطريق السليم، ونكسب من خلالها ما خسرناه.
رجاءً يا دولة الرئيس، لا تعقّدوا الأمور، ولا تضعوا لبنان تحت أيدي وكلاء أوصياء، بدأوا بلسان ديفيد شينكر بوضع شروط قاسية تجاه حزب الله والمعابر غير الشرعيّة، اي توسيع دائرة القرار 1701. تذكّر بأن جون بيركنز القاتل الاقتصاديّ كانت مهمته قتل الدول اقتصاديًّا وماليًّا أي إفلاسها، وزجّها في مشاريع انقلابيّة واحترابيّة، وهنا تكون الضلالة هذه أشدّ من كلّ ضلال مفترض.
3-القضاء المستقلّ
دولة الرئيس، إن انتفاضة القضاء الأخيرة مباركة وضروريّة، إنها الطريق الحقّ باتجاه القضاء على الفساد بأسره، وجميعنا يغبّطه على ذلك. ما سأورده في تلك الملاحظة مكمّل للملاحظة الثانية، فالحرب على الفساد بإمكانها، وحتمًا أن تقينا اللجوء إلى البنك الدوليّ، شريطة أن لا يكون القضاة تبّعًا لأقطاب سياسيين فاسدين. ذلك أنّ من شأن التبعيّة أن تفسد السعي والقصد وتبطل الهدف. في المعطيات الواردة أمامنا بأن القضاء إلى الآن ألقى القبض على المتورطين أو من احتسبوا متورّطين في الفيول أويل المغشوش كما على من تلاعب في سعر صرف الدولار. جمال المشهد أننا قافزون باتجاه بناء الدولة، وهذا لم يعد مسعى بل يتحوّل تدريجيًّا إلى فعل. فيما خصّ الملفّ الماليّ، وهو من الملفّات الدقيقة، لفت النظر بأنّ المدعي العام الماليّ القاضي علي إبراهيم، قد ألقى القبض على مدير الخزينة في مصرف لبنان، الذي اعترف بدور الحاكم في رفع سعر صرف الدولار. لماذا المدّعي العام الماليّ توقف هنا ولم يكمل المسعى باستدعاء الحاكم ودولتك منذ فترة حملته مسؤوليّة الوضع الماليّ. عندما يعترف مدير الحزينة بالإضافة إلى نقيب الصرافين بدور حاكم مصرف لبنان والسيد ميشال مكتّف فماذا ينتظر النائب العام الماليّ ليستجوبهما، ولماذا الحكومة اللبنانيّة لا تعمد إلى إقالة الحاكم من مصرفه، لكون مدير الخزينة وضعه تحت ضوء الاعتراف فيما هو لا يزال يتمرّد على قرارات الحكومة؟ أليس غريبًا أن يبدو رياض سلامة وميشال مكتّف بلا محاكمة أو مساءلة بالحدّ الأدنى، والناس إلى الآن لا تزال تكتوي من ارتفاع سعر صرف الدولار وتأثير ارتفاعه الفاحش على المعيشة، وعلى كلّ القطاعات وصولاً إلى السلك العسكريّ والأمنيّ؟
وبسياق مترابط ومرتبط يا دولة الرئيس، لماذا لا يتم استدعاء أصحاب المصارف قاطبة بقوّة الحقّ، ويتمّ وضعهم أمام مآثمهم، وهم الذين عمدوا، بفعل الحريريّة السياسيّة على بيع سندات الخزينة والاستفادة من أرباحها، ومن الفوائد الفاحشة، ومن ثمّ عمدوا على تهريب ودائع اللبنانيين بعد 17 تشرين الأول 2019 إلى الخارج، وبعض التهريب تجاء من شخصيات سياسيّة فاسدة ضمن صفقة مشبوهة تمت بينها وبين أصحاب المصارف، وهي عينًا الأموال المسروقة، وبعض الودائع هي للناس البسطاء، وهي جنى أتعابهم وأعمارهم. كيف يعقل يا دولة الرئيس أن يبقى أصحاب المصارف ورئيس جمعيتها خارج المساءلة القانونيّة فيتصرفون وكأنهم أقوى من الدولة؟ وهل يعقل أن يخرج سياسيّ ويعلو صوته النشاذ وبفجور كبير ليقول عن المتهمين بأنهم في حورتهم ولن يسلمهم للقضاء وكأنه فوق القضاء والقانون من دون محاسبته؟ هل يبقى الأقطاب أبرياء فيما الصغار الذين لا ناقة لهم أو جمل يتمّ الاستقواء عليهم، كما يحدث في معالجة بعض الملفّات؟ لا تسمح يا دولة الرئيس أن يسمع هذا النشاذ في ولايتك على رأس الحكومة، بل بادر وبقوّة الحقّ إلى رفضه والقضاء عليه.
4-محافظ بيروت والأرثوذكس:
دولة الرئيس، كاتب هذه السطور ليس طائفيًّا، بل ملتزم روحيًّا في كنيسة أنطاكيّة شاهدة لربها، ومؤمنة بمشرقيّتها، ومؤسسة بالتالي لعروبة هذا المدى. سلفك الحبيب الرئيس سليم الحص قال ومنذ سنوات في إحدى أبرز تجلياته، التلاقي بين الإسلام القرآنيّ والمسيحيّة المشرقيّة رحم لولادة العروبة وديمومتها. نحن وإياكم يا دولة الرئيس نؤلّف هذا الرحم، ليس بالمعنى الطائفيّ الضيّق بل الإيمانيّ الرحب، ولا اخالك بثقافتك بعيدًا عند أدبيات مواطن زوجتك العظيم المطران جورج خضر وقد كان أستاذًا في مادة الإسلاميّات وهو من دفعني لتذوق الإسلام وفهمه وحبّه.
من هذه الزاوية، أسمح لنفسي، سيدي، بأن اوضح لك بأنّنا معًا أسّسنا الميثاق الوطنيّ وفعلناه ورسحناه في بيروت. وقد كانت دارة مطرانية الروم متآخية ومتماهية مع دارة أبو علي سلام، واستمرّ هذا التآخي بين الأرثوذكس والسنّة وسطع على بهاء كبير. لقد كتبت على هذا الموقع مقالاً أعربت فيه بأن موقع المحافظ كمحافظ، ليس تقنيًّا أو إداريًّا بل هو سياسيّ وميثاقيّ بامتياز. وميثاقية الموقع انطلقت من هذا الخواص التاريخيّ الجامع تحول إلى اتفاق على أن تمنح للمحافظ السلطة التنفيذيّة.
حين استلم الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة، حاول كثيرًا تحجيم موقع المحافظ، وكانت قمتها في عهد الرئيس العماد إميل لحود، ممّا أباح الخلل. في الانتخابات البلديّة التي حصلت سنة 2000 عمل المغفور له الوزير السابق فؤاد بطرس إلى جانب المطران الياس عودة بتصويب الخلل وترميمه، فما كان منه سوى ان أعاد الحالة الميثاقيّة إلى بلدية بيروت بين المسيحيين والمسلمين باتفاق واضح بينه وبين المطران الياس من جهة والرئيس رفيق الحريري من جهة ثانية.
بعد عودة العماد ميشال عون من منفاه شعر المسيحيون بضرورة التحرر من استيلادهم في كنف الطوائف الأخرى. حجاهدوا فتحرّروا، مع انتخاب الرئيس العماد عون لرئاسة الجمهوريّة ضمن مفهوم تلاقي الوجدانات الثلاث تم الاتفاق بأن يسمي المسيحيون مرشحيهم ويسمي المسلمون مرشحيهم. تركيبة لبنان يا دولة الرئيس تفرض علينا، ويا للأسف، هذا النمط من الاتفاق، فلا تجافيه بصورة مفرطة، لكون المجافاة ستخلق أزمة حقيقيّة، ليس بين السنة والأرثوذكس بل بين المسيحيين والسنة، إسقاطًا لموقف البطريرك الراعي من مغبونيّة الأرثوذكس، ولعلك تعلم أنني أرفض تحوّل الطوائف إلى متاريس حامية للفاسدين، ورددت على البطريرك الراعي في مسألة رياض سلامة. غير أن المواقع المسيحية تمّ الاتفاق على أن تتمّ بين رئيس الجمهوريّة والمراجع الروحيّة، والدعوة لدولتك أن لا تترك هذه المسألة قيد الانفجار، وتنساب نحو حلّها بحكمة ورويّة ومحبّة وتذكّر بأنّ الروح الإيجابية غالبة للسلبيات وهذا ما نتوسّمه فيك.
دولة الرئيس أسلّم عليك تسليمًا كبيرًا، ولك مني فائق الاحترام.