في زمنِ إنكسار المرايا الأخلاقية وتكثّف صمت الشهداء ثقلآ خانقآ على صدور الأحياء، تحاول سوريا النازفة لملمة سلام سُكِب على عشب يباس وورق أصفر..
الجنوب النبيل من الناقورة إلى السويداء مُتوحد الحزن، فيما صُبح الشفق يفتش عن قنديل سِرِه، يتساءل عن فواتير تُدفع دون دينٍ من حَق تبخر؛ ليبقى بؤبؤ الحدقات يفيضُ دموعآ رُشْرِشت عطورآ على المفارق والطرق..!
الوجوه التي سُحِقت تحت الركام لم تكن أرقامًا، بل كانت تحلم، تُحب، وتنتظر فجرًا لا يجيء… هذه ليست مجرد مجازر من وحوش فالتة، إنها انحدارٌ أخلاقي سافر، انهيار للإنسانية، وذبح علني لآخر ما تبقّى من الإيمان بالعدالة.
القتل لم يعُد جريمة عابرة، بات مشهدًا مكرورًا “اكثر من التكرار نفسه” في نشرات الأخبار ومنصات التواصل دون توقّف ولا محاسبة..
كأنّ الدم العربي قدرٌ مكتوب، وكأنّ الأنين لا يجد أذنًا إلا في قلوب الأمهات.. أبشع ما في هذه المذابح أنها تُسَفّه كل ما جاءت به الشرائع السماوية من نور ورحمة، تجعل من الإنسان وحش الفرائس إن تخفى فَبزي مؤمن. من الإسلام إلى المسيحية واليهودية، اجماع على قدسية النفس البشرية وحرّمة سفك دماء الأبرياء.
قال تعالى: “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا”، وقالت التوراة: “لا تقتل”، فيما علّمنا المسيح أن من يضرب خده الأيمن، فليُعرض له خده الأيسر، لا أن يُذبحه..! لكننا اليوم أمام موتٍ يتخطّى حدود النصوص المُنَزَلّة ويهينها… نحن أمام واقع تختنق فيه الروح ويُدفن العدل مع الضحايا في قبور بلا أسماء..!
المشهد الكابوسي، على مرأى العالَم ومَسمعِه.. نتساءل: أيُّ إنسانٍ هذا الذي لا تدمع عيناه لطفلٍ يخرج حيًّا من تحت الركام، حافيًا، مرتجفًا، يبحث عن أمٍّ سُحِقت بجواره..؟ أي ضميرٍ ذاك الذي يرى أبَآ يحتضن جثمان ابنه ولا تتكسر روحه أمام وجعه..؟ أين ذهبت صورة الإنسان الذي خُلق على صورة الله ومثاله، ذاك الكائن الذي تسكن فيه نسمة الروح لا رائحة البارود..؟
الله ليس غائبًا عن الألم… بل هو في كل صرخة، وفي كل دمعة لم تجد صدرًا تبكي عليه.
هو في النحيب الذي يصعد من بيوت مهدّمة، وفي العيون المترنّحة من شدّة الفقد. من لا يشعر بهذا تخلّى عن إنسانيته طوعًا، وارتضى أن يكون شاهداً أخرس على مأساة لا تتكرّر… بل تتواصل..!
نحن لا نكتب لنُعِدّ الضحايا، بل لنمنع سفك الدم عادة بغير جناية. نكتب كي لا تتكلّس أرواحنا تحت ثقل صمت يحرق الأنفاس. نكتب لأن الجزار إن أفلت من العدالة اليوم، فسيُطارده التاريخ إلى الأبد، وسينبت الحقّ من تراب الشهداء وإن طال الغياب..!
الإدانة قاصرة؛ نُدين بأعلى الصوت تواطؤ العالم وتخاذل المتفرجين، وعُقم الضمير الإنساني الساكن برودة أروقة الأمم؛ وندعو إلى تحقيق لا يساوي بين الجلاد والضحية، ولا يمسح الدم بماء البيانات الصحفية.
إنها ليست مأساة السويداء وحدها، هي امتداد لنزيف لا يتوقف، يعبر الجغرافيا والحدود، يُلقي بظله الثقيل على شعوب تتكلم عربية واحدة تتشابه في الجرح والخبز والظلم ولو اختلفت الروايات.
من درعا إلى السويداء، من غزة إلى الخليل، ومن قانا الجليل إلى كل الجنوب الخارطة نفسها تُرسَم بالحبر ذاته.. لتبقى غزّة ملتحفة ثوب الحداد مُذ وُلدت، أطفالها يموتون مرّتين بالقصف مرةً، وبالجوع والتجاهل مرة اخرى.
المذابِح لم تَعُد تُثير ضمير العالم، الإنسان العربي أُخرِج من معادلة الكرامة، وأُقصي من لوائح “الحقوق” المعترف بها على الكوكب، هو قتيل دائم في عيون المتفرجين، وشهيد مؤجل في قواميس العدالة التي لم تأتِ يومًا..
عن نزار قباني: “كل شيءٍ في حياتنا قابل للنسيان… إلا الدم، فهو لا يُنسى”.. دمٌ واحد وإن اختلفت ألوان الرايات واللهجات. دمُ الإنسان حين يُذبح على مقصلة الجُبنِ والتخاذل السياسة والمصالح. ما يجمعنا ليس الألم فقط بل العزلة والعقاب الجماعي، والتواطؤ المُقنّع بربطات عنق ولو تغيرت أسماء الجلادين..!.
ما يجمع الضحايا في كل مكان صمتنا نحن، حين نتأقلم مع مشهد الجثث، ونحيا كأن شيئًا لم يكن. ليراجع إنسانيته من لم يهتزّ لمشهد أمٍ فُجِعت تبحث عن أشلاء بين انقاض؟ نحيبها اعلى من رُكام العالم… لأن الكارثة ليست فقط في المذبحة، بل في التبلُد أمامها..!
في لبنان؛ وَيحُ اللئام فما تُبقي إذا مَلَكت؛ لا تزال عناقيد الغضب في البال ساكنة ذاكرة قانا والوجدان رغم عقود سَرَت، تشهد أن المأساة ليست حدثًا بل نمطًا من جريمة متمادية .. الدماء النازفة في مهجع اليونيفيل ليست خضاب الحَناء بل نجيعٌ على النجيعِ صارخ ناطق مُقدّس.. هي ليست ماءً بل تاريخًا، قصةٌ وصلاة مَكسورة. إن لم نستفق اليوم، فلن يبقى غدٌ نستحقه..!
في النهاية؛ المأساة ملهّاة، آن أوان الصراخ لا البكاء، آن أوان الفعل بالعقل لا التعزية بالنكران. نحن في خضم لحظة عالمية تجتمع فيها استراتيجيات ذات إزدواجيات مُبطنة، وكل ألوان النفاق الجيو سياسي والأخلاقي.. أٰ نستعد لجنازات قادمة، ولقوائم ضحايا تطول وتطول بلا نهاية.. لا وطن يُبنى على المقابر، لا سلام يُكتب بالرصاص فقط، ولا مستقبل يُستولد من حطام. وحدها العدالة – وإن أتت متأخرة – هي الردّ المقدّس على هذا السقوط المروّع..
بين الصمود والانكسار ظلال الهزيمة، لم نعد نملك قدرة صنع العدالة بأنفسنا، لكننا نملك على الأقل ألا نسكُت على الظُلم.. وحدها الوحدة العصماء والصوت الحُر قادر أن يهزّ جدران الرياء. لِندع السلاح مُحَيَدآ مُدرَجَآ على اجندة أمننا القومي؛ ولتكن الكلمة الواضحة في وجه القتلِ فعلًا مُقاومًا مُضافآ.. فلنكتب وللننهض ونتوحد ولنشهَد لئلّا نُصبح نحن أيضًا… بالصَمتِ من الجلادين..!
الكاتب العميد منذر الأيوبي
عميد متقاعد وباحث في الشؤون السياسية والاستراتيجية..
The post المشهد الإنساني من السُويداء إلى غزّة… وجعٌ واحِد ودمٌ لا يُغسّل… بقلم: العميد منذر الايوبي appeared first on .