ليس مشروع زيادة الرواتب اليوم إلا علاجًا موضعيًّا للأزمة المعيشية، وإن بدا أنه واجب إنساني واقتصادي وحق طال انتظاره، منذ انهيار الليرة اللبنانية الذي أفرغ الرواتب من قيمتها. ذلك أن الحقيقة أعمق: لا فائدة من زيادة الرواتب تحت ضغط الموظفين، من دون خطة إنقاذ شاملة للأزمة التي تعانيها الإدارات العامة. خطة اقتصادية-إدارية متوسطة الأجل وفورية، تتضمن إعادة تنظيم هيكلية وأداء القطاع العام بما يضمن العدالة والكفاءة والإنتاجية والشفافية.
إن أي زيادة للرواتب، إذا كانت ستُموّل من الاستدانة لا من الإنتاج، سيُلقي عبئًا إضافيًا على الوطن، وستُستهلك الزيادة خلال أشهر قليلة بفعل استمرار انهيار الليرة وتلاعب التجار بأسعار السلع المستوردة. كما أن هذه الزيادة ستؤخّر السلطة عن الإصلاحات البنيوية، وتُشكّل ظلمًا مضاعفًا حين تُمنح بالتساوي للموظف المنتج الشريف، وللموظف الفاسد المسيّس في آنٍ واحد، ولن يكون لهذه الزيادة أي أثر إلا في استمرار الوضع الذي سبق الأزمة، ورافقها.
ما فقدناه في الدولة اللبنانية ليس التوازن المالي فحسب، بل فقدنا المعنى النبيل للوظيفة العامة. فلدينا من الموظفين من باتوا يعملون في مراكزهم وفق منطق “الولاء السياسي”، لا وفق القانون أو الكفاءة أو خدمة المواطن. والأسوأ أن الزيادة المرتقبة تشكل خسارة للموظف الشريف الذي غالبًا ما يُهمَّش أو يُتَّهَم بـ”الغباء”، بينما تُفتح الأبواب للنافذين والفاسدين.
فهل من المنطقي أن نكافئ الجميع بسلة مالية واحدة؟
ألا يُعدّ ذلك انتهاكًا للكرامة الوظيفية أكثر من كونه إنصافًا ماليًّا؟
وهل يجوز أن نمحو الفرق بين من ضحّى لأجل وظيفته وبين من استغلها للنهب والابتزاز؟
وهل تُعالجُ الأزمةَ بمجردِ إقرار الزيادة من دون تمييز بين السلوك والإنتاجية؟
بهذه المقاربة، نرى أن الفرصة الأولى للإصلاح قد حانت في ظل عهد وعد بتبديل القواعد. من رئيس الجمهورية الموثوق، إلى الحكومة التي يأمل المواطن أنها تألفت من أجل خدمته، تحت عنوان الإصلاح الذي لم يعرفه المواطن اللبناني في تاريخه الحديث.
إن على هذه الحكومة الحالية ألا تعالج المشاكل بالمهدئات، وألا تحوّل الزيادة إلى مخدّر شرعي، بل أن تنصف العامل الشريف، وتحمي قيم الوظيفة. لا أن تعمد إلى تسوية لإسكات الجميع، بل أن تحمي المؤسسات من خلال تفعيل المحاسبة والعقوبة باسم الإصلاح، والإصلاح فقط.
لطالما سمعنا عبارات مثل “حماية هيبة القضاء” أو “احترام الإدارة العامة”، لكن هل يُحمى القضاء حين يُطلب من قاضٍ فاسد بأن يستقيل بدل أن يُحاكم ويُعاقب؟ وهل نحمي الإدارة حين نُجري تشكيلات ترقّي الأدنى كفاءة على حساب الأجدر؟ وهل نحمي الإدارة بدفن الملفات في الجوارير او المستودعات، ولكل جارور ومستودع في لبنان ألف حكاية؟
أخطر ما نواجهه اليوم هو تحوّل الإدارة إلى أرض مسطّحة، لا غربال فيها يميّز الغثّ من السمين، حيث يُصنَّف كل موظف وكأنه أهلٌ للاستحقاق، بغض النظر عن أدائه أو أمانته.
إن الزيادات غير المشروطة، في ظل غياب أي إصلاح جذري أو غربلة وظيفية، ليست دعمًا حقيقيًّا للموظف بل عبء جديد عليه وعلى الاقتصاد اللبناني لأن آثارها واضحة: مزيد من الانتفاخ في الموازنة العامة، طباعة جديدة للعملة الوطنية، انخفاض في القوة الشرائية، وزيادة الضرائب. والأسوأ أن المواطن يدفع الثمن فيما لا تُفتح ابواب بحق من أوصله إلى هذا الانهيار، سوى مشهدية “محاكمة فندقية” لحاكم مصرف لبنان السابق، على فتات ما ارتكبه من جرائم مالية.
وبكلمات أوضح: لا يمكن إنصاف الموظف الحقيقي عبر الاقتراض. ولا يُنقذ القطاع العام بزيادة الرواتب بل بالمحاسبة، تمهيدًا لإنصاف المجتهدين النزيهين، وقد تصل رواتبهم – في حال الإصلاح – إلى أعلى الحدود، بل الى أن تكون “مفتوحة” في بعض القطاعات كالقضاء، طالما أن سقف القضاء هو العدالة.
لقد قدمت السلطة في لبنان “شكل الدولة” على “جوهرها”، فحمت الهيكل وخنقت مضمونه، ورفعت شعارات “كرامة الوظيفة”، بينما الكرامة تُهدر في أروقة الفساد في زمن السلم وفي زمن الانهيار معًا. فالإصلاح لا يُقاس بزيادة الرواتب، بل بمقدار استعادة القيم ووضع خطة طوارئ شاملة لإنقاذ الإدارة والاقتصاد.
قد يُساء فهم هذا الكلام، فيُحسَبُ أنه اعتراض على زيادة الأجور. لا قطعًا؛ ما نعارضه هو عدم المحاسبة، بحيث تبدو الزيادة كجائزة ترضية للفاسدين والمحسوبين، بينما الموظف الشريف لا يُمَيَّز. فالدولة لا تنقذها إلا عدالة تميّز بين النزاهة والانتهاك. وطريق الإصلاح الحقيقي يمرّ عبر مساءلة جريئة، وهيكلة واعية، وقرارات تضع الكفاءة والنزاهة فوق كل اعتبار.
بعدما دفع اللبنانيون ثمن الانهيار وانتفاء المعالجات الجذرية، فإن الرهان اليوم على العهد الجديد وعلى الحكومة القائمة لتكريس نهج مغاير، يقوم على المحاسبة لا التواطؤ، وعلى المساءلة لا المحاصصة. المطلوب ليس مجرد زيادة في الأجور، بل خطط عملية لتنفيذ القوانين الرقابية وتفعيل التفتيش والمحاسبة، وإعادة الاعتبار إلى مبدأ أساسي: لا حماية لفاسد، ولا مكافأة إلا لمن يستحق.
الظرف مؤاتٍ اليوم للرئاسة والحكومة لترك بصمة تاريخية، عبر تنفيذ القوانين الرقابية بحق الفاسدين وتكريم المجتهدين. فالبصمة العادلة تُكتب حين يُقال بوضوح: من أساء يُحاسَب، ومن اجتهد يُكرَّم. لا عبر الاكتفاء باستقالة الفاسد ودفع تعويضه، بعد أن يكون قد لوّث الإدارة بما لا يُغسَل.
إنّ أي نهوض اقتصادي لا يُبنى على الإنفاق وحده، بل على إعادة هيكلة الإدارة العامة على أسس النزاهة والكفاءة. فلا خطة إنقاذ تُكتب لها الحياة من دون إصلاح جذري للبنية الوظيفية والمؤسساتية للدولة، حيث يُفصل المسيء، ويُحفَّز المجتهد، وتُستعاد الثقة بالمرفق العام.
لقد آن الأوان لوضع خطة طوارئ إدارية، لا تقل أهمية عن أي خطة مالية أو نقدية، لإنقاذ ما تبقّى من ثقة الناس بالدولة ولإنقاذ الدولة من الروتين وتأدية الخدمات بأحدث الطرق التقنية
فلينطلق العهد من الحقيقة داخل المؤسسات، لا من المؤسسات على حساب الحقيقة، ونحن نثق بأن العهد الجديد لن يتوانى عن العمل للوصول الى الحق والحقيقة.
نقيب المحامين السابق في طرابلس
انطوان عيروت