لم يكن موفقا، رئيس حزب القوات اللبنانية، الدكتور سمير جعجع، في الاجتماع الذي دعا إليه الوزراء المحسوبين على القوات اللبنانية، او ما اقترح على تسميتهم "وزراء القوات".
والسبب، ليس أنه اجتمع بهم، وهذا امر طبيعي في الحياة السياسية، بل إن عدم التوفيق مرده الى الاثارة التي ظهرت، من قبل قطاعات واسعة من الرأي العام، عبر ردات الفعل والتعليقات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
الانزعاج، لم يكن لمجرد اجتماع جعجع بالوزراء، بل بتوقيت وشكل الاجتماع. خصوصا وان توقيت الاجتماع قد تم قبيل اجتماع الحكومة الأول، وقبل ان يترأس رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون اول اجتماع لمجلس الوزراء ويدلي بتوجيهاته العامة والأولى باعتباره "رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن".
من هنا، فان مسارعة جعجع الى عقد اجتماع مصور ومتلفز في معراب والخروج بتصريحات حول مهام الحكومة المقبلة وتوجهاتها المفترضة، قبل اجتماع الحكومة الأول، ظهر كانه قطع للطريق على الرئيسين عون ونواف سلام، وهنا ظهر جعجع كمن يدق على الطاولة من اول الطريق بالقول "نحن هنا" في معراب!
كان بإمكان الدكتور جعجع ، ان يصدر بيانا يحدد فيه موقف "القوات" وتوجهاتها، قبل انعقاد الاجتماع الأول للحكومة، لكن ان يستبق اجتماع الحكومة باجتماع برئاسته تصدر عنه بيانات وتوجيهات، ظهر وكأنه "دعسة ناقصة" متسرعة وغير مدروسة ومتعجلة لاعلان تفوقه في بيئته المسيحية وجماعته الشمالية وحزبيته القواتية، على غريمه جبران باسيل، الذي وجد نفسه خارج الحكومة لأكثر من سبب وسبب، كما ان جعجع لم يجر الحساب المنطقي والطبيعي لرئيسي الجمهورية والحكومة في تركهم التمتع في زهوة او "رهجة" الاجتماع الأول والصورة الأولى.
في كل الأحوال، فان تشكيل حكومة العهد الأولى، حكومة "الإصلاح والإنقاذ" حسب تسمية رئيسها، شكل ولأكثر من سبب، حدثا فارقا ومهما، في لبنان اشتاق الشعب اللبناني لرؤيته والتمتع به.
حتى ان قطاعات واسعة من الراي العام، كانت تبدو مبتهجة وفرحة بهذا الحدث الكبير، وغير مصدقة له، وهو الذي حمل اشارات دالة وكبيرة على بدء دخول لبنان مرحلة جديدة.
المفارقة، او المفارقات المهمة، تولى قيادتها وتسجيلها: اولا، رئيس الجمهورية باصراره على تثبيت موعد الاستشارات الملزمة لكتلة حزب الله، باسقاطه محاولة الابتزاز الاولى. وثانيا، رئيس الحكومة الجديد في الساحة السياسية، القاضي الدولي نواف سلام، الذي خطف الأنظار والاهتمامات، بامساكه بكتاب الدستور ورفعه بوجه الأطراف السياسية، قائلا : هذا هو كتابي وهذا ما اتمسك به واتقيد باحكامه.
وسلام هنا، ظهر مستعيدا ومسترجعا، الى ذاكرة اللبنانيين، عهد المغفور له، الرئيس الأكثر شهرة واحتراما ومحبة، بتاريخ الجمهورية، الرئيس الجنرال فؤاد شهاب، الذي عُرف بتمسكه باحكام الدستور والوقوف عنده، مع كل مفترق بالقول، والترداد والسؤال دائما عبر جملته الشهيرة:"ماذا يقول الكتاب؟"، وكان يقصد الدستور اللبناني.
لهذه الأسباب، ظهر تفوق سلام كبيرا ومتقدما، في عودته الى احياء الاصول والارتكاز الى اساسات الجمهورية اللبنانية، التي اهتزت وأضحت متهالكة ومتعبة حتى الأمس عبر، امساكه بالدستور فيصلا وحدّاً فاصلا بين شطر من الرأي من هنا، والشطر الاخر من هناك. في بلد اعتاد في الفترة الاخيرة على قواعد كرستها في العقد الأخير ومنذ اتفاق الدوحة، ممارسات شاذة غريبة ودخيلة على الدستور والنظام البرلماني الديمقراطي.
والواقع ان سلام تمكن من خلال تشكيل هذه الحكومة من إعادة تثبيت عدة نقاط كانت منسية او كان قد أصابها التشوه والضربات الكثيرة في اتجاه محاولة توليد اعراف هجينة راسخة.
يقول الدستور في المادة 64: "رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة يمثلها ويتكلم باسمها ويعتبر مسؤولا عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء ... الخ
"يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها" ... الخ
يطرح سياسة الحكومة العامة امام مجلس النواب .
لهذه الأسباب كلها، فان سلام عاد الى قواعد الدستور في تشكيل الحكومة، بمعنى انه تصرف وفقا للأصول في اختيار الوزراء لانه يتحمل المسؤولية عن الحكومة امام مجلس النواب، القادر على منح الثقة او حجبها عن الحكومة.
من ابرز ما اكد عليه سلام، هو ان الدستور لم يحصر اية حقيبة وزارية باية طائفة كما لم يمنعها عن اية طائفة في إشارة الى التمسك بالمداورة بين الوزارات والطوائف والقوى السياسية.
للتذكير، كان الرئيس المفدى العماد ميشال عون، قد ارسل للرئيس المكلف سعد الحريري ظرفا مختوما مع دراج من القصر الجمهوري، مع اوراق فيها مربعات فارغة، طلب فيها تعبئة الفراغات باسماء الوزراء المقترحين، ما ادى الى خراب الجمهورية بمن فيها وعليها!
ظهر خلال عملية تشكيل الحكومة، الجديدة ان للرئيس المكلف رأي في كل وزير، قبل قبوله عضوا في الحكومة، فيما كانت التقاليد التي كادت تتحول عرفا تمر عبر اقتراح الاسماء والحقائب من الاطراف السياسية، من دون اي دور للرئيس المكلف او رئيس الجمهورية، اما القاضي سلام، فقد ناقش وفاصل، وتعرف، على أغلب الوزراء قبل اقتراحهم اعضاء في الحكومة.
في مذكراته التي اصدرها تحت عنوان "مذكراتي في وزارة الخارجية" بعد تجربته في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، يروي الوزير السابق فوزي صلوخ، ان الرئيس فؤاد السنيورة ناقشه في معتقداته ورأيه السياسي، واغلب مواضيع السياسة الخارجية التي كانت مطروحة يومها، وسأله عن موقفه من هذه وتلك من القضايا، خلال التحضير لتشكيل الحكومة ويكون فيها عضوا ووزيرا للخارجية.
ومن نجاحات سلام بسبب تفاهمه وانسجامه مع رئيس الجمهورية ايضا، تعطيل ما سمي بـ"الثلث المعطل" داخل الحكومة وهو المطب العقدة الذي كان فُرض بقوة السلاح عقب غزوة بيروت في السابع من ايار "المجيد" 2008!، من قبل حزب الله وحركة امل.
نجحت تجربة القاضي سلام في تشكيل الحكومة، في شطب معادلة "الثلث المعطل" او الضامن، كما اطاحت بمعادلة وصيغة حكومات الوحدة الوطنية الفضفاضة، التي شكلت برلماناً مصغراً، ومنبراً للمزايدات والعراضات السياسية الفارغة، ما عطل عمل الحكومات وامكانية الوصول الى نتيجة مفيدة او ممارسة الية النظام البرلماني الديمقراطي. وكانت اطاحت بقاعدة جوهرية اساسية، وهي مسلمة المحاسبة من قبل البرلمان للحكومة، والمعارضة من اطراف سياسية خارج الحكومة.
وبذلك يكون القاضي سلام، القادم من محكمة لاهاي وتجربتها، فوق معرفته العميقة بالدستور والقانون الدستوري، والتطورات والاصلاحات التي دخلت عليه ولحقت به، قد اعاد وضع انتظام عمل مجلس الوزراء وعملية تشكيل الحكومة، على السكة مجدداً، بعد ان خرجت عنه لسنوات.
لكن هل سينجح الشاغل الجديد للسراي الكبير، في اطلاق عجلة قطار لبنان وايصاله الى المحطة المأمولة بامان ونجاح؟