تكتونية وزلزالية، هكذا يمكن وصف التحولات والتطورات الأخيرة في سوريا، والتقدم المذهل للمعارضة المسلحة في عملية "ردع العدوان"، وصولاً إلى تحرير دمشق وإسقاط نظام آل الأسد، الذي استمر بالسلطة قرابة نصف قرن. تحمل تلك التحولات في طياتها دلالات كبرى وستترك تداعيات وآثار هائلة على المنطقة كلها، بما فيها فلسطين بشكل عام، وحرب غزة بشكل خاص، ما يفرض بالضرورة على الطبقة السياسية الفلسطينية القراءة العميقة واستخلاص العبر الصحيحة، وعلى قاعدة أن ما جرى ويجري يصب أساساً واستراتيجياً في صالح فلسطين وقضيتها وشعبها.
بداية، لا بد من شرح التطورات الأخيرة في سوريا والمعطيات المتعلقة بالتداعي المفاجىء لدفاعات وجيش نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، واجتياح قوات المعارضة السهل لحلب وحماة وحمص وصولاً الى دمشق، وخلق وقائع ميدانية وسياسية تشي باستحالة العودة إلى الوراء، وبالسياق تأكيد تراجع وحتى انهيار دور إيران وروسيا وحضورهم بالقضية السورية، وتقادم إطار وعملية أستانة التي باتت الآن وبالتأكيد من الماضي، مع العودة الصحيحة أخلاقياً وقانونياً وسياسياً لإطار وعملية جنيف بما في ذلك القرار الأممي 2254، المستند إليها.
إذن، تسارعت سيطرة المعارضة على المدن السورية وخلال أيام معدودة ودون معارك حقيقية وجدية في حلب وحماة وحمص ودمشق، مع تداعى النظام الذي يعود لغياب العوامل الثلاثة التي منعت انهياره خلال السنوات الـ13 الأخيرة، مع التذكير بحقيقة أنه سقط نظرياً أو إكلينيكياً منذ كسر الشعب السوري حاجز الخوف وحطّم جدار الصمت، في 18 آذار/مارس 2011، وحتى قبل ذلك في 15 آذار، عندما خطَّ أطفال درعا بأناملهم الرقيقة على جدران مدرستهم عبارة يسقط الديكتاتور.
وبتفصيل أكثر، كان الشعب السوري قد أسقط النظام منذ نزل منتفضاً وثائراً إلى الشارع، ورغم اتباع الحلّ الأمني وارتكاب الفظائع والمجازر وجرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية حسب لجان تحقيق تابعة للأمم المتحدة، بما في ذلك استخدام الصواريخ الثقيلة "سكود" وحتى السلاح الكيماوي ضد الشعب الثائر.
بعد فشل الأجهزة الأمنية وآلة القتل الأسدية، تدخلت وإيران وميليشياتها من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان عام 2012، وفشلت هي الأخرى في حماية النظام، فتمت الاستعانة بروسيا عام 2015، ما ساعد على بقاء النظام في السلطة إلى حين انهياره تماماً قبل أيام لأسباب ذاتية وموضوعية تتعلق بطبيعة وخواء النظام نفسه، كما بالقوى التي دعمته وأبقته في السلطة عنوة ورغماً عن ارادة الشعب السوري.
على المستوى الشخصي أو القيادي، يمكن الحديث كذلك عن غياب ثلاث شخصيات أساسية ومؤثرة ساهمت في حماية النظام خلال السنوات الأخيرة، وهي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤول فيلق القدس قاسم سليماني، وأمين عام حزب الله السابق حسن نصر الله.
غير أن بوتين رفض التدخل بمواجهة عملية ردع العدوان لانشغاله واستنزافه في أوكرانيا، خصوصاً مع سحب معظم القوات الروسية من سوريا، وهو لم يقاتل طالما أن جيش النظام نفسه لا يقاتل.
كما غاب سليماني ولم ينجح خليفته إسماعيل قآاني في ملء مكانه، بينما تحوم حوله شبهات العمالة واختراق مكتبه من قبل إسرائيل وربما أجهزة مخابرات أخرى، إضافة إلى أن إيران نفسها باتت في وضع الدفاع بعد نجاح إسرائيل في نقل المعركة الى قلب طهران.
بينما أدى اغتيال حسن نصر الله في الحرب الأخيرة، إلى غياب الضلع المتبقي في مثلث حماية بشار الأسد، وهي الحرب التي تركت الحزب محطّماً، مع نقمة من قبل مناصريه على تركه وحيداً تحت رحمة الضربات الإسرائيلية، سواء من نظام الأسد أو حتى من إيران نفسها.
خلال الفترة العشرية السابقة، كانت تركيا قد تدخلت لمحاربة التنظيمات الإرهابية لمنع المشاريع الانفصالية والتقسيمية في سوريا، كما حفاظاً على مصالحها المتماهية مع مصالح الشعب والمعارضة والسورية، ونفذت ثلاث عمليات عسكرية ضد الحركات والتنظيمات الإرهابية، أولاً ضد داعش في عملية درع الفرات، ثم وحدات حماية الشعب الكردية، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، عبر عمليتي غصن الزيتون ونبع السلام.
وخلال المرحلة نفسها وتحديداً أواخر حقبة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وتفضيله الانكفاء عن المنطقة شرقاً نحو آسيا، وعزوف الغرب عموماً عن الانخراط بالقضية السورية، بادرت تركيا إلى التفاهم مع روسيا وإيران، ضمن عملية أو إطار أستانة لخفض التصعيد وإبقاء الأفق مفتوحاً أمام الحل الساسي، وجرى التوافق على أربعة مناطق لخفض التصعيد حيث سيطر النظام تماماً على ثلاث منها، دمشق ودرعا وحمص، ثم قضم أجزاء مهمة ومعتبرة من الرابعة في أرياف إدلب وحلب وحماة.
ثم تغيرت الأمور كلياً في السنوات الخمس الأخيرة في تركيا، خصوصاً المستوى الاقتصادي، إثر جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، كما وضعت المعارضة التركية ورقة اللاجئين السوريين والمطالبة بعودتهم إلى بلادهم، في صلب جدول الأعمال السياسي والإعلامي الداخلي، وعليه مدّت القيادة التركية المنتخبة كما في أي دولة ديمقراطية، اليد إلى نظام الأسد الذي ظن أنه انتصر، خصوصاً مع الانفتاح العربي والتطبيع معه، فبادر إلى رفض اليد التركية الممدودة حتى مع النصائح الروسية والعربية بالانفتاح إيجاباً على أنقرة.
وبالعودة إلى عملية ردع العدوان، فقد جرى التخطيط والإعداد لها لسنوات من أجل استعادة الأراضي التي قضمها الأسد من مناطق خفض التصعيد، كما لإجباره على العودة إلى المسار السياسي، وهي كانت مقررة منذ سنة تقريباً غير أن تزامنها مع حرب غزة أدى إلى تأجيلها لإعطاء النظام السابق فرصة لدعم غزة والتصدي للخطط الإسرائيلية في الجولان وسوريا، وهو ما لم يفعله بشار الأسد.
تجاوزت العملية التي انطلقت بضوء أخضر أو على الأقل برتقالي من أنقرة، ومنذ ساعاتها الأولى منطقة خفض التصعيد وأستانة، وأعادت الاعتبار إلى القرار 2254، وإعلان جنيف، حيث البدايات الأولى للثورة السورية، وبعد ذلك نجاحها في إسقاط النظام الهش الذى تخلى عنه حلفاؤه للأسباب السابقة الذكر، طارحة بالسياق خارطة طريق جديدة، تشمل الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية ومنع التقسيم والخطط الانفصالية ومنع الحرب الأهلية والفوضى وانهيار الدولة، وشق مسار انتقالي نحو سوريا الحرة التعددية والمدنية والديمقراطية لكل مواطنيها دون إقصاء.
في الأخير، وإضافة إلى المعطيات والاستنتاجات السابقة، سيتواصل الاهتمام العربي والعالمي بسوريا خلال الأسابيع والشهور المقبلة، ضمن التداعيات والآثار الهائلة للتحولات السورية على المنطقة وحتى العالم. وفلسطينياً، نحن مدعوون بالتأكيد للقراءة واستخلاص العبر والسعي الجاد لإنهاء حرب غزة والتوصل إلى تفاهم بروح وفلسفة اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، مع صفقة تبادل أسرى جادة وعادلة، وصولاً إلى اتفاق وقف إطلاق نار دائم وسلطة وطنية" فعلاً"، تنهي الانقسام مع الضفة، وتعيد توحيد المؤسسات و‘عمار غزة، مع "يونيفيل" اقتصادي وآخر سياسي وأمني، لمساعدة السلطة على القيام بمهامها الوطنية، وببساطة لابد من القراءة الضرورية للتطورات السورية والإقليمية والدولية واستخلاص العبر المناسبة والدقيقة منها.