على مدى الأيام الماضية، تصدّرت قضية حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، واجهة الحدث اللبناني. وكل المعلومات تُشير إلى أن سلامة وقع في مصيدة القضاء اللبناني، ومن الممكن أن تطول فترة احتجازه، خصوصًا في حال صدور مذكرة التوقيف الوجاهية بحقه يوم غد الإثنين 9 أيلول.
عند التاسعة صباحًا، سيُساق سلامة إلى قصر عدل بيروت مخفور اليدين، برفقة القوة الضاربة، سيمثل أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت، بلال حلاوي، برفقة مجموعة من المحامين، ومن ضمنهم وكيله الجديد، مارك حبقة (وكيل محطة الـMTV)، الذي زار سلامة بعد توقيفه عارضًا عليه المساعدة القانونيّة.انقلاب قضائي مفاجئ؟في عدلية بيروت، تساؤلات كثيرة حول مصير سلامة وعن طبيعة المعلومات التي سيقدمها أمام القاضي حلاوي للدفاع عن نفسه، وعن الضغوط السياسيّة التي تُمارس على الجسم القضائي، وعن قرار حلاوي الذي ستنعكس تداعياته على المشهد السياسي في لبنان.
في بادئ الأمر، خطوة المدعي العام التمييزي، القاضي جمال الحجار، كانت شجاعة وجريئة جدًا، وشكلت صدمة لدى الأوساط السياسية والقضائية والقانونيّة وللرأي العام أيضًا، لسبب واحد أساسي، أنه ومنذ تسلمه هذا المنصب لم يتخذ أي قرارات "جريئة" إلى هذا الحد.
يُعرف القاضي الحجار داخل عدلية بيروت بأنه "رجل القانون". والمؤكد اليوم أن اسمه لن يُنسى بسهولة، وصار مرتبطًا بأكبر حدث في لبنان، وهو توقيف حاكم مصرف لبنان السابق، رياض توفيق سلامة.
وحسب مصادر"المدن"، فإن "المستندات التي وصلت للحجار هي التي ورّطت سلامة، ولم يكن أمامه سوى قرار توقيفه". وربما، حاول بهذه الخطوة استعادة هيبة القضاء اللبناني. وتضيف المصادر، أن قرار الحجار لم يعجب بعض القضاة، وهناك من يعتبر أنه "ورّط" القضاء اللبناني بهذا الملف الحساس.
على أي حال، تحرّك ملف سلامة بعد توقيفه بسرعة لافتة؛ ختم الحجار تحقيقاته، وحوّل الملف للنيابة العامة المالية. والمفاجأة كانت بسرعة النائب العام المالي، القاضي علي إبراهيم (المُقرب من الثنائي الشيعي، والذي تجنّب الدخول في قضايا سلامة في المراحل السابقة) بالادعاء على سلامة، ومن ثمّ حول الملف إلى قاضي التحقيق الأول، بلال حلاوي (المُقرب أيضًا من الثنائي الشيعي)، الذي حدّد لسلامة جلسة استجوابه الأولى.
إذن، مسار قضائي سريع ولافت. أما سياسيًا، فيمكن أن نقول أن ملف سلامة القضائي بين أيادي قضاة الثنائي الشيعي.
مصادر متابعة للقضية توقعت لـ"المدن" إصدار مذكرة توقيف وجاهية بحق سلامة، وستكون كفيلة بتوريط سلامة وإدخاله في مسار قضائي معقد وطويل، يؤدي إلى احتجازه لأشهر طويلة. وتخوفت المصادر من الضغوط السياسية التي تُمارس على القضاة "لإيجاد مخرج قانونيّ لسلامة لإطلاق سراحه". ومن السيناريوهات المطروحة هو "ترك سلامة بسند إقامة، أو بكفالة مالية مرتفعة، ومتابعة جلسات الاستجواب (أي يلتزم بحضور جلسات الاستجواب في موعدها)، خصوصًا أنه ممنوع من السفر، والنيابة العامة التمييزية سبق وأن صادرت جوازات سفره. وبالتالي، لا خوف من أن يغادر الأراضي اللبنانية".
ليست المرة الأولى التي يزور فيها سلامة القضاء اللبناني، ولكنها المرة الأولى التي يُستدرج فيها بهذه الطريقة من دون أي ضمانة سياسيّة. وجديّة استدعاء سلامة إلى القضاء تمثلت بقدرة مكتب المباحث الجنائية المركزية (الضابطة العدلية) على تبليغه بموعد الجلسة بالرغم من محاولاته بالهروب، والتي دحضت مقولة "اختفاء سلامة" التي تمسك بها عدد من الأجهزة الأمنية في السابق، حين كان يُطلب منها تبليغ سلامة للمثول أمام القضاء."صمت" سياسي وأبعاد دوليةوعلى الرغم من المعلومات التي تُشير إلى ضغوط سياسية على القضاء، إلا أن "صمت" الكثير من السياسيين كان مفاجئًا منذ لحظة توقيف سلامة. تصريحات خجولة، وكأنها تؤكد بأنه الموعد المناسب للقضاء على سلامة.
ومن خلال مراقبة الأحداث القضائية منذ بداية العام 2024، ثمة الكثير من الأحداث المرتبطة بقضية سلامة، والتي تُشير إلى أن قرار توقيفه قد يكون مُرتبطًا بعوامل سياسية داخلية ودولية.
- بتاريخ 5 شباط 2024، خصّص رئيس الشرطة الجنائية الفيدرالية الألمانية (BKA)، هولغر مانش، زيارة إلى المدعي العام التمييزي المتقاعد، غسان منيف عويدات، عارضًا المساعدة الألمانية على القضاء اللبناني، ومستفسراً أسباب تأخر الدولة اللبنانية في رفع دعوى قضائية ضد سلامة، لحفظ حق الدولة اللبنانية من أموال سلامة، التي تصل إلى أكثر من 140 مليون دولار في ألمانيا فقط، عدا عن العقارات والشركات.
- بتاريخ 23 شباط، كُلف القاضي جمال الحجار بمنصب المدعي العام التمييزي.
- بتاريخ 17 آذار، اتهم القضاء الفرنسي إميل رجا سلامة (إبن شقيق الحاكم السابق) بالتآمر الجنائي، غسل الأموال على يد مجموعات منظمة، والتستر عن الجرائم، وتشكيل عصابة أشرار. وانضم إميل إلى عصابة سلامة العائلية.
- بتاريخ 6 حزيران بدأت المعركة القضائية بين القاضي الحجار والمدعية العامة في جبل لبنان، غادة عون (المحسوبة على التيار العوني)، ورُفع الغطاء السياسي عنها، واتخذ الحجار قرارًا بسحب الملفات المصرفية من عون، ورحّبت الطبقة السياسية بقرار الحجار.
- في شهر تموز، زار قاضي التحقيق الأول في فرنسا، سيرج تورنير (من أهم القضاة المتخصصين بالجرائم المالية) القضاء اللبناني، والتقى بقضاة من النيابة العامة التمييزية ووزارة العدل، طالباً منهم التعاون في ملف سلامة والإجابة على المراسلات المحولة من فرنسا.
وأيضًا، زار وفد من السفارة الفرنسية وآخر من السفارة الألمانية النيابة العامة التمييزية لمتابعة مستجدات سلامة، ومساءلة القضاء اللبناني عن الإجراءات التي اتخذت في لبنان بحق المصارف.
- بتاريخ 12 تموز، دخل حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري على الخط، واتخذ قرار صفة الادعاء الشخصي ضد سلامة أمام القضاء الفرنسي، وصار ملزمًا بتقديم المعلومات والمستندات المطلوبة للقضاء الفرنسي. وتعاون منصوري لم ينحصر بالمحاكم الأوروبية، بل قدم مستندات ووثائق من هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان لكل من القاضية عون، والقاضي الحجار. هذه المستندات كانت كفيلة برمي سلامة خلف القضبان.
- بتاريخ 8 آب، ادعى القضاء الفرنسي على رجا سلامة (صاحب شركة فوري الوهمية) بتهمة تشكيل عصابة أشرار، اختلاس، تبييض، إساءة أمانة، فساد تآمر جنائي.
- بتاريخ 4 أيلول، استُجوب سلامة وجرى توقيفه داخل قصر عدل بيروت. والواضح، أن القضاء الأوروبي مارس الضغط بقوة على الجانب اللبناني لتحريك قضية سلامة والمصارف.
أما في لبنان، فشكّل اسم سلامة رعبًا لدى بعض القضاة حين كان حاكماً وأفادهم كثيراً، فكانوا يسايرونه حرصاً على مصالحهم وعلى مناصبهم. كان اسم سلامة المتورط بالفساد يُلاحقهم بشكل مستمر. أما هو، فكان محظوظًا لفترة معينة، وتمتع بغطاء سياسي انعكس بشكل مباشر على مسار ملاحقته قضائيًا. وعلى ما يبدو، أنه خسر الغطاء السياسي، خصوصًا بعد انتهاء ولايته داخل المصرف، والتي تزامنت مع التلويح الجدي بفرض عقوبات أميركية على السياسيين والقضاة. هكذا فجأة، تحول المهندس المالي للمنظومة الحاكمة وحافظ أسرارها، إلى "ضحية" مرمية داخل زنزانة صغيرة في مبنى لقوى الأمن الداخلي.