مرارة حلوة. هو طَعمُ تصفح الموقع الإلكتروني الذي أطلقته "أمم للتوثيق والأبحاث" وتَعرض فيه نسخاً رقمية مما استطاعت إنقاذه من أرشيف "ستوديو بعلبك".مرارة فقدان هذا المعلَم الثقافي الشاهد على بعض من أجمل أيام لبنان. أجمل وظائفه كبقعة حرة ومُتنفّس حياة في عالم عربي، كان، حين افتتاح الستوديو في أوائل الستينات من القرن العشرين، يموج بالاضطرابات والقمع والحروب. بل كان أيضاً لبنان الذي يحلم بنفسه وِجهة للغرب ليُنتج فيه بعضاً من ثقافته، بدلاً من لبنان المتلقي فقط لتلك الثقافة واللاحق بركبها كبُرعم واعد. أما الحلاوة، فللأسباب المُرّة نفسها: أنه كان لدينا "ستوديو بعلبك"، وأننا كنا أجمل، نحقق أحلاماً اكتشفنا أخيراً أنها سراب، لكنها مع ذلك تحولت واقعاً ملموساً لفترة قصيرة سرقناها من تاريخنا وحاضرنا.فيديو بعنوان "الأحداث اللبنانية" (1966) يقول كل شيء تقريباً. ليس واضحاً تصنيفه في خانة "الأخبار". هل كان فقرة عرضت في صالات السينما قبل بدء عروض الأفلام، كما جرت العادة في تلك الأيام؟ أم أنه فقرة لأخبار المنوعات والمجتمع، بُثت عبر "تلفزيون لبنان"؟ لا يهم. لكن ذلك الخبر عن اجتماع نادي "الليونز" في البريستول، والذي "درس قضايا تعود بالخير على الرسالة الليونزية والمجتمع بكامله"، فيما موسيقى فيلم "العراب" تُصاحب كاميرا متنقلة بين الوجوه حول طاولات الفندق، تتركك مفكّراً متبسّماً: الآن أقول أني تقريباً رأيت كل شيء.وثمة المزيد من "الأحداث اللبنانية":"بعدما حاول بعضهم التشكيك في ما أعلنه الطبيب اللبناني الدكتور بلعة عن إمكان معالجة السرطان، جاء بيان بعض الأجانب الذين يتداوون على يده، ليقوّي مركز الطبيب اللبناني، وقد قالوا إنهم شعروا بتحسن غريب بعد معالجتهم في لبنان وقالوا إنه يكلفهم أقل بكثير من أي مصح أوروبي". نرى الدكتور بلعة (الذي لم نعرف اسمه الأول) يعاين صور أشعة، ومعه رجل (هل هو مساعده أم مريضه؟) يسلمه تلك الصور بيد وفي اليد الثانية سيجارة مشتعلة يملأ دخانها العيادة. هكذا كان الطبّ، وكانت الدعاية الطبية مسموحة، وبهذا النوع من اللبنانوية شديدة البساطة في سذاجتها كما في اعتدادها بنفسها.(الدكتور بلعة قاهر السرطان)و..."عقدت جمعية مصرف لبنان ندوة دراسية من أجل تطوير بيروت كمركز مالي دولي، وانتهت الندوة لوضع مجموعة توجيهات سترفعها جميعة المصارف إلى السلطات اللبنانية من أجل تحقيق الهدف". إنه مكر التاريخ.. وملهاته.والمزيد: "افتتاح المطعم الدوار في الطابق 25 من فندق هوليداي إن، وملهى ليلي في الطابق 26"... و"في حين تتنازل ملكات الجمال عن عروشهن لسبب أو لآخر، نشهد نحن في لبنان، كل أسبوع، انتخاب ملكة جمال، من دون أن ينتهي العنقود.. فأجريت انتخابت ملكة جمال موظفي شركات الطيران، وستمثل الآنسة ريبيكا ترزيان لبنان في مسابقة ملكة جمال العالم للخطوط الجوية في ميامي".(الآنسة ريبيكا ترزيان ملكة جمال موظفات الخطوط الجوية)أما إعلان برنامج الملهى الليلي "كرايزي هورس" للأعياد (وكان يُعتبر "مولان روج" البيروتي)، فيتضمن "باليه من هولندا" (والصورة لفتيات بسراويل قصيرة وصدريات وجَزمات براقة)، كما يقدم بحسب الإعلان، "رقصات بإيقاعات جديدة في جو من الألوان والأضواء الغريبة"، إضافة إلى فنان فرنسي مع دمياته، وراقصة شرقية، "إنه معقل السهرات الحلوة في شارع فينيقيا في بيروت". لقد كان اللهو، وكان الانفتاح الذي يساير، في النص الإعلاني المقروء دون الصور، حِشمة لا تبدو مُستحية بما يُقدَّمه الملهى، بقدر ما هي خَفِرة تتوخى وقاراً مُخفّفاً ولعوباً. إنها بيروت الستينات.***هُدم مقر "ستوديو بعلبك" في سن الفيل، العام 2010، وقيل آنذاك إن مساحته ستتحول مرآباً للسيارات. في ذلك المكان المختفي الآن، تم تسجيل الكثير الكثير من الأعمال الفنية، بدءاً بأغاني فيروز وأفلامها، وصولًا إلى مئات الأعمال الموسيقية لفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وصباح وغيرهم. كانت السينما اللبنانية قد شهدت تطوراً سريعاً، مستفيدةً من تأميم السينما المصرية على يد جمال عبد الناصر، فتوجه المنتجون والمخرجون المصريون إلى الواحة اللبنانية الرحبة. (برومو فيلم "خللي بالك من زوزو" نُفّذ في "ستوديو بعلبك)مؤسس "أمم"، المثقف والباحث والناشر اللبناني البارز، لقمان سليم، قُتل في عملية اغتيال في شباط 2021، ما زال فاعلها "مجهولاً" حتى اليوم، وهذا في حد ذاته مفارقة مؤلمة بين ما كانه الأرشيف ولبنانه، وضياعه مع ضياع البلد ومآلاته الكارثية. لكن سليم كان ما زال حيّاً وبكامل حماسته حينما علم ببيع محتويات "ستوديو بعلبك" تمهيداً لهدمه. ومع زوجته وشريكته في تأسيس "أمم"، مونيكا بورغمان، جمعا ما أمكنهما من ذلك الكنز: أوراق لا تقدر بثمن، وعشرات المصنّفات التي تحتوي على معلومات عن أشهر الأفلام التي أُنتجت في الستوديو: "بدوية في باريس"، "شوشو والمليون"، "بنت عنتر"، "كلّنا فدائيون"، "بنت الحارس"، وغيرها. ومن بين المستندات أيضاً، مراسلات بين المخرج يوسف شاهين والكاتبة أندريه شديد وبديع بولس (أحد مؤسِّسَي ستوديو بعلبك الفلسطينيَين)، وبرقيات متبادلة مع شركة غومون Société Gaumont ورسائل احتجاج على التأخير ولوائح بالمشتريات، ورسائل من المنتج الهوليودي وينتروب Weintraub، أحد كبار منتجي شركة بانافيجن Panavision، ولوائح بأسماء موظفي الستوديو وملاحظات للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين... إضافة إلى حوالى 800 لفافة من الأفلام الروائية إلى المسلسلات والأفلام الوثائقية ونشرات الأخبار وحتى الأفلام الدعائية... تاريخ كامل، ذوى منه أكثر مما انتُشل من تحت الأنقاض.***لعل من أهم ما قيل في الأرشيف أنه، فيما يحفظ الذاكرة، يحرقها ويدمرها أيضاً، إذ يستبقي ما في لدُنه ويلغي كل ما هو خارجه، وهناك دائماً خارج طالما أنه لا أرشيف لكل شيء. كل كَشفٍ هو في الوقت نفسه حَجب، قيل في فلسفة الأرشفة. لكن لبنان يشذّ كعادته، إذ يخوض دوماً معركة إنقاذ أرشيفه من أخطار الحروب والإهمال والفاقة والفساد، بدلاً من خوض عملية جَمعه الأساس."حمّى الأرشيف" التي يتحدث عنها جاك دريدا، الصدمة التي تجذب واحدنا محموماً للنظر في أصل الذاكرة والعثور عليها، هي، للّبنانيين، حمّى البقاء المحض، أي بقاء، أي مُستطاع، بشراً وذاكرة. وإذا كان الأرشيف ينشأ ليحمي نفسه، فإنه أيضاً يحميه ليخفي نفسه... لكن لبنان يختفي كونه بلا أرشيف، وما يتم إنقاذه من أرشيفه هو اختيار قسري يفرضه الانمحاء. عنف السلطة اللبنانية ليس في حفظ ما تختاره وفرض ما يجب نسيانه، بل هو العنف المحض لسلطة فجّة في عبثيتها، بلا قوة القانون ولا سيادة الحِفظ. عنف بدائي بشع. عنف اللا-سُلطة في الحُكم والرشد، وعنف الاستبداد بمَحو لا يتشرّف حتى بِنِيّة مسبقة وتصميمٍ مُفَكَّر فيه."لا سلطة سياسية من دون السيطرة على الأرشيف، إن لم يكن على الذاكرة"، يقول دريدا، إذ يُفترض أن تُقاس الديموقراطية الفعالة بمعيار أساس: المشاركة في الأرشيف والوصول إليه، ودستوره، وتفسيره.فلمَن السُلطة في لبنان، إذاً؟ للا أحد؟ للخراب العشوائي؟ قطعاً ليست لمَن يُنقذ ما يوشك أن يضيع كاملاً. ربما لمَن يُفني، إذا كان يمارس الإفناء هذا عن وعي. لكن حتى ذهاب الأرشيف اللبناني هباء، يبدو فوضوياً. كان دريدا ليموت بسكتة قلبية لو قُيّضت له مواجهة المعضلة اللبنانية. لكنه بدا شاعراً بكَربِنا العميم حين وصف "حمَى الأرشيف": "الرغبة القهرية والمتكررة والحنين إلى المؤرشَف، رغبة لا يمكن كبتها في العودة إلى الأصل، وحنين إلى الوطن، وحنين للعودة إلى أقدم مكان في التاريخ".