2024- 06 - 16   |   بحث في الموقع  
logo بايدن يقدم "المقترح الأفضل" لإنهاء الحرب على غزة! logo "مصدر للقلق"... المالديف تعلق قرار حظر دخول الإسرائيليين logo عزيز: اصحاب المبادرات يبحثون عن أضعف واسوأ ماروني logo الجيش الإسرائيلي "يزعم" قصف أهداف لحزب الله! (فيديو) logo والد وزير سابق في ذمّة الله! logo مقدمات نشرات الاخبار logo "كابوس" في أوريغون... 28 شخصاً عالقين في الهواء رأساً على عقب (فيديو) logo "ما تقربوا يا لبنانيين"... أيوب: هدف زيارة هوكستين هو إحتواء التوتر بالجنوب
"مدينتان" أو تطويق المدينة بالهزيمة
2024-05-24 12:55:44

"التّعب في هذه المدينة/ هو مفتاح الكلام" (من قصيدة "هويّة" في الكتاب نفسه)
إن كتاب "مدينتان"(دار المتوسط)، لعلي شمس الدّين وبلال خبيز، ليس في الحقيقة سوى كتاب مدينة كبيرة، وفيه يتبيّن الكاتبان رحلتيهما الطّويلتين، كل واحدٍ في المدينة العالق فيها.هندسةٌ ماكرةٌيقدمم "مدينتان" هندسة كتابية متكرّرة تختلف النّصوص فيها بتبدّل الموضوع، أو بالأحرى، بتبدّل الجزء المستهدف من المدينة. هذه الهندسة تعتمد بدايةً، في كل شذرةٍ منها، على عنوانٍ مختصر إخباريّ لا شاعريّ. إذ نجد مفردات كاللّغة، الصّباح، الابتسام والخوف، وغيرها من الكلمات شاسعة المدى الخياليّ، مسقطةً على هيئة عناوين تستدعي القارئ إلى ملعب الكاتب من الباب الأماميّ للنّصّ. إلا أنّ هذه العناوين تؤدّي وظيفة الخلاصة، بحيث أنّها تعيد تحديد موقع محتوى النّصّ بالنّسبة إلى عملية اكتشاف المدينة وتعريفها. إذ إن هذه الأخيرة، هذا المفهوم الغريب، والمكان الضّائع، تفرض في سياق الكتابة عنها، منهجيّةً متسلسلة، سواء أكانت كتابةً شعريّةً أم سرديّةً. وهذا الشّرط يعود إلى التّفريغ الذي يتعاون عليه كلا الكاتبين، من خلال إعادة ملاحظة بديهيّات الحركة الإنسانيّة في المدن.النّصوص في "مدينتان" مبنيّة على صلةٍ ظاهريّة بين الشِّعر والنّثر. لكن هذا النّموذج يخدع النّاظر ويُبهر القارئ، إذ إنّ هذه الهندسة المعتمدة تقوم على نصَّين متتابعين. يأتي الأوّل مركّباً على هيكل القصيدة الحديثة الشّطريّة، والآخر نثري من حيث الشكل الكتابيّ أساساً. لكن هذه التّشكيلة، شكليّة فقط. فالشّاعريّة ممتدّة بين النّصّين على حدٍّ سواء.يقول شمس الدّين وخبيز صراحةً بموت العين المجرّدة. إن تقنيّات النّظر في المدينة هي أدواتُ وجودٍ. فالعينُ التي تلاحظ، لا ترى أبعد من نفسها، إنّما ترى ما حولها من دون أن تقيم في داخله فعلًا. إذ إن الوصف السّرديّ، المدعّم بالواقعية على حساب الوجدانيّة المفرطة، لا يجدُ لنفسه مجالًا للتحليق سوى بانغماس الذّات معه: المدينة، لا تحتمل السّرد. إن اعتماد النّموذج التّقليديّ للنّمط السّردي في النّصوص الثّانية، يدلّ على محاولة الكاتب الفاشلة في إبعاد ذاته عن الحياة في المدينة. وكأنّه، حينما يروي احتلال شركات التّصوير بمعدّاتها وخيامها وممثّليها للشارع الذي يقطنه مثلًا، يشخصن الحدث ليؤمّن لنفسه مساحةً آمنة يُخرج فيها ما في داخله من مشاعر وتخيّلات ومخاوف. الرّد على هذا "الفعل" كان بقوله: "ونحن ها هنا نتفرّجُ على الموت الذي سيصبح مصوّراً بعد زمن".السّردَ جائزٌ في النّصوص الشّعريّة أكثر منه في تلك السّرديّة. فالكاتب، عندما يستلّ الخوف من يومه الطّويل، يجد نفسه محاطاً بمدينةٍ من الأحداث. وأمام هذه الذّكريات والتّصرفات الغريبة عن ذاته وعن مشاعره، والمُفعَمة بالوجدانيّة، يهرب الكاتب نحو عنصر الحركة ليوسّع مداه الشِّعريّ. إذ إن الحركة، تلك البطيئة كالتّلصّص والتّمدد والمشاهدة، تحوّل الزّمن الطّويل إلى شِعر. فالصُّوَرُ البديعيّة لا تعود تقوم فقط على علاقة خياليّة شخصيّة بين الدّال والمدلول عليه، إنّما تَستندُ على مخالفة إيقاعها لطبيعة الحركة في الجوّ الذي تدخل فيه. فالصّور البديعيّة المُثقَلَة بالبطء تشكّل، بحدّ ذاتها، شاعريّة أكبر وأعمق من تلك الرّابطة لمفرداتها بعضها ببعض، بحيث أنّها الطّعنُ الأوّل والشّديد الأثر في زحمة المدينة وسرعتها. إذ يقول الكاتب:"لا أعرف إلى ماذا أنظرإلى زند الفتى الضّخمأم إلى ثديِ الفتاةِ الصّغيرأم إلى نفسي أقفُ كالصَّرصارفي زحمة ما بعد الظّهيرة"هذه القصيدة، الطالعة من مدى النّظر، تُبرز جليّاً قيام الشّاعريّة على تعارض السّرعة والإيقاع بين المدينة والنّظر بحد ذاته. والسّؤال الذي يغلّف القصيدة برمّتها، يزيد من هذا الشّرخ ويعمّقه. بحيث أن التّساؤل في عزّ زحمة سير، تحت أشعّة شمس الظّهيرة اللّاذعة والحارقة، هو انسحاب إلى الذّات والأفكار. لذا، تُعتبر هذه الخطوة فعل مقاومةٍ للظّروف والبُنى الفكريّة المُدُنيّةُ الشّائعة، وفي الوقت عينه منهجيّة تفكيكيّة لهيكل المدينة الرّقميّ العلائقيّ الاجتماعيّ والتّعبيريّ على حدّ سواء.التّفكيككتاب "مدينتان"، تيهٌ في تفكيك المدينة. فعملية التّفكيك هذه، وانعدام الكلّيّة العضويّة فيها، ترمي القارئ خارج حدود المدينة فيما هو باقٍ في داخلها. وبالتّالي، تُصبِح المراقبة سابحة في فضاء لامحدود، وبذلك يتمّ أوّلًا تدمير ركيزة المكان والتموضع في جوهر المدينة. ففي قصيدة "حبُّ"، نَقَع على ما يلي:"أمّا الحبّ، فقد دُفِنَ تحت عتبة الصّباحاتنتركه في السّرير القَلِقِ نوقِّع خروجنا بقبلةوبِحَراكِ المستيقظ الثَّمل من شبه الضّوءنذوي في الشّارع إلى مثوانا اليوميِّ"وفي ما يلي، يقدم الكاتب على عملين مرتبطين بشكلٍ وثيق بجوهر المدينة المكانيّ، وهما فعلا الدّفن والذّويِّ في الشّارع. ففي الحالة الأولى، لا يُدفن الحبّ داخل إطار مُدُنيّ أبداً، إنّما يحدّد الكاتب محور تفاعلاته على الحالات النّفسيّة والمشاعر. وبذلك يُمسي عنصر المكان، مُفرغاً من طابعه التّحديديّ متحوّلاً بذلك إلى مجموع العلاقات والتّفاعلات النّفسيّة الوجدانيّة في ذات الكاتب. وبالتّالي، لا وجود للمدينة صباحاً إلّا على هيئة حالة نفسيّة عند الكاتب.وكذلك حصل بفعل الذّويّ في الشّارع، وكأنّ هذا الأخير، خرج من طبيعته المكانيّة ليفتح الطّريق أمام مسارٍ طويلٍ ويوميّ من العذاب والتّعب والخوف. الشّارع، في هذه العبارة، أشمل معنًى ودلالة منه بمنطقه المكانيّ. إذ يمكننا الإشارة إليه على أنّه حالةٌ يمرّ بها الفرد من بين سلسلة من المواضع النّفسيّة والفكرية والوجودية المشكِّلة للمدينة. الشّارع مرادفٌ للشّعور بالتّعب والزّحمة والخوف، إنّه أحدُ مقوّمات اللغة المُدنيّة التي يبتكرها الكاتبان في هذا الكتاب.إن عمليّة تفكيك جوهر المدينة المكانيّ، لا تنتهي إلّا بجهوزية اللّغة المؤلّفة من هياكل وحطام العبارات والمفردات المفكّكة. إذ إن الشِّعر كما السّرد في "مدينتان"، يوظّف لغةً لا تتحرّك مكانيّاً ولا زمانيّاً، بل تفاعلاتها مع محيطها الوجدانيّ لا الواقعيّ."النّهار كان مكتبوتاً منذ غاب النّورأمّا الآن، فالنّهود مستنفرةٌتُطارد فرائسهافي زحمة الضّوء المُنتشر".كلمات مثل النّهار، الزّحمة، المُنتشر، غاب، كلّها مفرغةٌ من جوهرها الزّماني والمكاني، لتصبح بذلك عاجزة عن الدّخول في أي تسلسل أحداث، أو هيكلٍ سرديّ. الأفعال، في هذه الحالة، أسماء مضخّمة والأماكن والأوقات أفعالٌ مضمرة.وبدل المدينة أنثىصحيحٌ أنّ عمليّة التّفكيك المتجذّرة في لغة الكاتبين فعّالة إلى الحدّ الذي تتساقط فيه المدينة أمام القارئ على هيئة أعضاء، لكنّ ذلك لا يتمّ بصيغة كاملة ونهائيّة إلّا بإعادة تركيب وبناء هذا الجسد: وبدل المدينة تنبني أنثى. إن النّاظر في المدينة، لا إليها، يقفز عليها بعينيه كأنّه فوق جسد امرأةٍ، ويتسفيض في اكتشاف تفاصيلها بغريزة جنسيّة مختبئة خلف فضول مشبوه. فهذه الرّغبة الغريبة والسّريّة في تفكيك المدينة بالنّظر ومن ثمّ بالكتابة وانسيابها عبر فضولٍ جامح، يجعل القارئ حائراً ومشكّكاً في صحّة اهتمام الكاتب نفسه بالمدينة. إذ كيف يستطيع تأمّلها حتّى؟ الرّغبة الجنسيّة توسّع المدينة وتَملأها بالكاتب حتّى الطّفح. ففي الحقيقة، إذا أعدنا التّفكير في هيئة الضّياع الذي يبتلع الكاتب، نرى جيّداً أن المدينة لا تتجزّأ بالنّسبة إليه، بل هو المُجَزّأُ الذي يجمع أعضاءه وأفكاره وأحلامه ومشاعره المتبعثرة فوق جسدها نحو نقطة التقاء متغيّرة نتيجة الخيبة والعقم الجنسيّ الذي أُصيبت به هويته الوجوديّة.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top