2024- 06 - 17   |   بحث في الموقع  
logo مأزق إسرائيل شمالاً: حرب مستبعدة وعودة مستحيلة للقواعد القديمة logo بايدن يقدم "المقترح الأفضل" لإنهاء الحرب على غزة! logo "مصدر للقلق"... المالديف تعلق قرار حظر دخول الإسرائيليين logo عزيز: اصحاب المبادرات يبحثون عن أضعف واسوأ ماروني logo الجيش الإسرائيلي "يزعم" قصف أهداف لحزب الله! (فيديو) logo والد وزير سابق في ذمّة الله! logo مقدمات نشرات الاخبار logo "كابوس" في أوريغون... 28 شخصاً عالقين في الهواء رأساً على عقب (فيديو)
"قصر موَال" لدومينيك إدّه... ألف حياة غير مرئيّة
2024-05-24 12:55:44

تُخَلخِل دومينيك إدّه فِي بعضِ أجوبتِها عن "روايتِها" الصَّادرة حديثًـا "قصر موَال" معظَم الانطباعات التي يمكن لقارئهـا أن يتـلقّـاها عـقِـب تلك القـراءة. هي تـفعـلُ ذلك من دون أن تـقـدِّمَ ما يُفسِّرهُ فِـعلًا سوى تأكيد قـناعات المتلـقّـي - إيحَاءً- بأنَّهُ على شيءٍ من صوَاب الـتَّـخَـيُّـل.

يجري الأمرُ على هذا المنوال: "لا، ليس قصر موَال كناية عن لبنان بقـدر ما هـوَ مسْرح وطنٍ على وشك الرّحيل.. الـزّمن في الرواية مرتبط إلى حدٍّ بعيد بالحاضِـر وليس بالأحداثِ الجـارية.. الحبُّ موجُودٌ في كلِّ مكان في قصر موَال لكـنَّـهُ لا يـَمنع مَا يمـنعُه...". بل أكثر من هذا الذي يبدو بسيطًا ولا يلبث أن تتبدّى فيه نزعَة حيويَّة نحو تعدُّد زوايا المنظور السَّرديّ في موضُوعات الأمكنة والشخصيَّات والقصر ذاته الَّذي ينهبُ الوقـتُ فيه سكينتَهُ الهشَّة بسرعةٍ قصوى ليصبح "شاهدًا" على عالَم لا يهادنه الـتّغيير، "وأقـولُ لنفسي الآن إنَّ قصر موَال يُشبهُ إلى حدٍّ ما مـقبرة السَّاعات القـديمـة".
وَلا يتوسَّمُ المرءُ في المداخل الأولى لنصّ إدّه منافـذ واعـدة لأمُورٍ يعـوِّلُ عليها الأملُ. قصرٌ لا تغادرهُ الرَّوعَـة بهندسته ونوافذه التي "تنفذ منها الحديقة بأشجارها وورودها كـنُور الشمس" كما فعـل الرّخَـاء والوفـرة والأيَّـام التي كان فيها محطّ لقاءات "المجتمع البيروتيّ". بات اليوم "مكانًا مهجورًا بماضِيه ومأهُـولًا بِذَاكرته". بات فسحة لرماد الأيّام والوحشة بعد وقوع القصر تحت الرهن وعجز صاحبه اليوم عن المستوى الذي خبره طيلة حياة. لا يأتنسُ فيه الخادمُ الفيليبينيّ بل يحار: "لا أستطيع معرفة ما إذا كان هذا المنزل جميلًا أم مُكمِدًا... حتى شجيرات الورد في حديقـته لا تبدو حقيقيَّة بل كأنها مصنوعة من الرخام شبيهة ببلاط الأرض".
ربَّةُ القصـر الآن ليونورا زوجة سليم مـوَال. تُقاربُ الثّمانين بكلِّ الأرواح التي خبرتها في عـمرها الفائض بالحياة المُترعَة بكلّ وَجد. قدمت من إيطاليا إلى لبنان منذ ما يقارب الخمسين عامًا. سكن الإيمان قلبها بعد موت أخيها في بلدها الأم وغادره بعد موت أخيها الثاني وهي في دير الفرنسيسكان في بيروت. تعرّفت على سليم الّذي "يُضفي شَيئًا منَ الرّزانَـةِ في معرض الخـفَّة العام، والدّعابة في كلّ حال". بدوره، أُعجِبَ بها لأنَّها "دخلت في حديثنا مثل قائد الفرقة الموسيقية في غرفة التدريب.. ما أعجبني فيها أسلوبها في استِخراج الأفضل من كلِّ واحدِ منّا." كانت في الثلاثين من عمرها، "العمرُ الذي نحلم به في سنّ المراهـقة، وَالّذي نتذكّـره عندما تنتهي الحياة".
سليم مالِك القصر. "جاء والداه من خلفيات برجوازية مارونية ثرية، وقاما بتربية ابنيهما وابنتهما مع مربيات من ألمانيا ثمّ من فرنسا، ومدرّسين لِلغة العربية فشلوا بدورهم في جعلهم يحبُّون اللغة." هكذا، "حفرت اللغة الفرنسية ثـقـبًا في أدمغتهم الطفوليَّة، وقطعتهم عن جذور لغة بلدهم". خذلـتهُ الأحداث والبلَد وسياسيُّوه والمصَارف حتَّى بات عاجِزًا عن صيانةِ مُلكِه. كانت ليونور منذ خمسة عقود، وما زالت، حبّ حياته.
المشهد، بالنتيجة، كئيب. امْرأةٌ ذات جسدٍ متهالِك ورُوح حُرَّة طليقَة، لـيونور. قصْرٌ مُرتَهَن شبه مهجور. أجيرة فرنسية للقراءة والسلوان، فينيـز. خادم فيليبينيّ وزوجته، آوتهما المرأة في غرفة، ساري ودِيمي. ابنٌ غاضِب، رياض، لأنّ المرأة -والدته- منحت ألف دولار لجمعيّة تُعنى باللاجئين السوريّين، ولأنها متعاطفة مع كلّ مظلوم. مقيم في فرنسا، متمرّد، متعصّب لمسيحيّته ولما هو على المحك: مصيرهم في ما تبقّى من البلد. أمَّـا سليم، الزَّوج، فقد أخلى لها القصر منذ عشر سنوات لائذًا في غرفة فندق بفضل صداقة مالكه، منصرفًا إلى تأمُّل البحر والـقراءة، متجرِعًـا مرارة الوعي بفداحة الخَسارات الّتي اجتاحت، ولم تزل، إرثـهُ العائليّ وبلـدهُ الجميل وحبّ حيـاتِه بعد أن علِـم بأنَّ ليونور عشقـت بالشّغـف عينه نـدًّا له، وبالسَّويَّة عينها، يامان المخرج التركي لسنواتٍ عديدة قبل أن يفارق الحياة. وعلاقته اليوم مع ليونور تسليمٌ طوعيّ كامل بواقع "الفـراق المستحيل".
*
"حين تـفـقد المستـقبـل يُصبح الماضي هو الحاضِر". والذّرائع الّتي تتوسَّلها إدّه دخُولًا في سياق "السَّرد" هي زيارات سليم المتقطّعة إلى قصره الكئيب وحديقـته الـغَـنَّاء ليحادث ليونورا ويهتمّ بهـا. وهي رسائله العتيقة إليها تستعيدها قراءةً بعينٍ مُصابة بـ"بقعة صفراء macula" على وشك الانطفاء، وبعدسة مكبّرة كأنَّها لتغرق في مشاعر دافـئة عجزت السنوات عن إطفائها. وهي أيضًا رسائل نبيل المستـقـرّ منذ زمن بعيد في فرنسا إلى شقيقه سليم، ورسائل سليم الجوابيَّة إليه. وهي كلام رياض إلى والدته في زياراته النادرة إليها والمصحوبة بنوبات غضب من هذا الخراب الضارب في أوضاع عائلته وبلاده والمسيحيّين فيه... وهي أحاديث الأجانب المقيمين في الخدمة والمرتاعين من حالة مخدوميهم وحالة هذا البلد العجيب الّذي لا يقرّ له قرار.
تـتَردَّد أصداءُ "الأحداث الجارية" في إيقاع السَّرد ولكن بشكل عبارة هنا وعبارة هناك بعيدًا عن "الغنائيَّة" القاتمة والتفجُّع. "المصارف خدعتـنا"، (قبلة يوضاس). "بعد الرابع من آب فـقـدنا كيفيّة القدرة على الحديث". "حزب الله يستـقـوي على كلّ ما سواه". "الرؤساء سرقوا المليارات من الخزائن وكان لقطعانهم نصيب". "الدّين حاضر بقوة في هذه الرواية كما هو الحال في البلد والمنطقة بل والعالم. إن غزو الدِّين للسياسة أمر مثير للقلق بشكل متزايد. ومن خلال دفع هذا المنطق إلى أقصى حدوده فإننا حتماً في مأساة". "نحن في القذارة السّوداء، هذا هو الأمر: القذارة".
ما من مساحات إضافيَّة للأحداث خارج بعض العبارات. الحدَث الأهمّ هو وتـيرة الانهيار والخراب المتصاعدة -على الأقل- منذ خمسين سنة، فكأنَّها تُضمِّنُ بِناء نصِّها انطباعًا أساسيًّا بأنَّ الحقـيقـة المريعة تتبدَّى في الكلِّ لا في الجزء، خصُوصًا في الجوانيّات لا في البرّانيات والانشغال بها عن الدّاء عينه.
*
تعمـل لُغةُ إدّه عملَ الإكسير بحيث تحوِّل "عناصِر" روايتها الآنفة الذّكر إلى مصاهـر أساليبها الخاصّة في الكتابة. عاشت ليونورا لحظة الحياة بكلّيتها. كان ذلك في روما حين التقـت بيامان. "هناك كُتِبَ الحُلم ورُسِم ونُحِتَ واكتمَل". كان لديها آنذاك كلّ شيء. لم يعـد ثمّـة سبيل للمضيّ فيه. كانت في الذروة من كلّ شيء.. من كلّ شيء تمامًا كما لو أنَّها فوق "شرفَة اللانهائيّ". بشكلٍ أو بآخَر، في الكتابة أو في الحياة عينها، يتطابقُ الأمر مع دومينيك إدّه في نواحٍ عديدة. وثمَّة انعكاسات كثيرة في "قصر موَال" من الحياة الزّاخرة التي عاشتها إدّه في كلّ المستويات، ثقافيّا وفكريا وعاطفيّا ومأسويّا، لكنَّها انعكاسات خبـيـئة بعيدة خلف لغةٍ تقـيمُ فيها بالأناقةِ المعهودةِ دقائقُ التّعبير وشاعريَّته وملوانته كأنّها الفنّان التشكيليّ الانطباعيّ يتحكَّم بمستويات الضّوء والألوان والأبعاد واللمسات الحادَّة من ألمٍ أو من شجنٍ أو من استحضار لحظات خارج الحياة لشدَّة ما كانت حياة وكلّ ذلك بوعيٍ حاد يتجاوز فكرتي الزمان والمكان إلى الدّاخل الإنسانيّ الذي يحفظُ مناعة المعنى وسط عواصف اللامعنَى السَّائد في حياتـنا الرّاهنة. دومينيك إدّه امرأة على حِدة. ما من مُواضعَةٍ اجتماعيَّة في وسطٍ أرستقراطيّ قَـيَّدت حركتَها. وما من أفكار مُسبَـقـة من بيئات مُشبِّعـة للثقافـة بآفاقٍ مفـتوحـة حدَّت من آفـاق وأنماط تفكيرها. وما من مكان في جغرافـيـا النَّسب والحسَب والأمكنة والأوساط الجامعيَّة المتنوِّعة الـرّاقية أوقعها فِي أسْره. وما من نزعاتٍ ما بعد-حداثيَّة عاشتها على الأرجح -بمقتضى الطّبع والسَّجيَّة- بكلِّ كيانها الإنسانيّ المتأجّج استطاعَت أن تنزع من مكانٍ راسخٍ في وعيها قيمة الأثـر الكلاسيكي المعرفيّ في الذاكرة. لذلك كلّه، من الصّعوبة بمكان عَـزْو أعمالها إلى أيّ تـقـليد منَ المستوى السّكونيّ اللابِد سواء في مقارباتها الثّقافيَّة، وأعمالها الأدبيَّة، ودراساتها البحثيَّة، وأساليبها اللغويَّة/ التعبيريَّة، وحقول اهتماماتها الفكريّة والسّياسيّة والوجدانيّة بل والعاطفيّة المعـقـولة بالحياة عينها كما يتبدَّى ذلك في كتاباتها ونصُوصها ومواضيعها.
لاذت إدّه بخيالِهَا. استعاضت عن العالم الخارجيّ بِـهِ "تعـزيـزًا للعالَم الدَّاخليّ". "الآن، هذا العالَـم الدّاخليّ هو موضُوعي" كما صرّحَت بوضُوح. وتمامًا كما عبَّرت ليونورا: "تصوَّرتُ الغياب كسقف.."، كمكان للحُلم حين يُغـادرهَا تجده على الفور في هذا الاستيداع الدّاخليّ الحمـيم، "هذا هو المكان الّذي زرعتُ فيه ألف حياةٍ غـير مـرئيَّة..".
عاشت إدّه ألف حياة مرئيّة وغير مرئيّة. كثيـرٌ من هذه الحَـيَوات تـتقـاطَع واقعـيًّا مع "قصر مـوَال". منها ما هو مرئيّ: العائلة، رغادة العيْش ورهافته، الثقافات الواسعة، لبنان وجلجلة الخسائر، فسحة العالم العريض، التعاطُف مع القضايا الانسانيَّة... ومنها ما هو غير مرئيّ لكنَّه في مكانٍ ما هو عِـلَّة النّصّ وروحه: إدوارد سعيد "الحكاية الأكبر في حياتي، مِنحـة ولكن أيضًا مِحـنة" (كما صرّحت مؤخَّرًا في "ليبيراسيون" في معرض حديثها عن روايتها)، التعاطف الكامل مع النساء في مآسيهنّ، و... فلسطين بكلّ الأبعاد الملحميّة ووجوهها في عصرنا الحديث. وقد تساءلت دومينيك إدّه مؤخّرًا (في لوريون-لوجور) قائلة: "إذا كان منظر أهل غزة وهم يتجوَّلون بين أنقاضها من جحيم إلى آخر لا يوقظ العالم، فهذا يعني أن العالم قد جُـنّ".


المدن



كلمات دلالية:  ال إد هذا ها الس سليم قصر الد
ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top