أتذكر الجمهور الغفير الذي احتشد أمام صالة الكندي في اللاذقية حين عُرض فيلم عبد اللطيف عبد الحميد الأول "ليالي ابن آوى"، وكيف أنني ألغيت أمر حضوره جراء تدافع الناس أمام شباك التذاكر، لا بل كان من المتعذر مرور أي سيارة من "نقطة البوليس" نزولاً إلى شارع 8 آذار. كان ذلك في العام 1988 ربما! وبعد أسبوع أو أسبوعين وجدت نفسي في حلب في بيت جدتي في الجميلية، في رحلتين محتمتين واحدة في الربيع والثانية في الصيف لأمضي إجازتي في أحضان الجدة العظيمة اكتمال سكّري رحمها الله. أستعيد الآن كيف قادتني رجلاي من الجميلية باتجاه ما يعرف بشارع السينمات الممتد إلى ساحة باب الفرج، فإذا بي أمام صالة الكندي، وهي شبه خاوية و"ليالي ابن آوى" معروض فيها، يا لسعادتي، دخلت الصالة ولم يكن فيها سوى ثلاثين مشاهداً أو أقل، وكنت المشاهد الوحيد الذي يضحك في الصالة وكلما ضحكت وقهقهت استشعر عيوناً متسائلة في العتمة عن الذي يضحكني! وسرعان ما تبينت سبب ذلك، أي أنهم عرفوا بأنني اللاذقاني الوحيد في الصالة القادر على فهم اللهجة، وصولاً إلى الحزن الشديد الذي حل بي مع الجزء الأخير من الفيلم حين يبقى أسعد فضة وحيداً يقلب في محطات الراديو عاجزاً عن التصفير وعواء ابن آوى يعلو ويعلو.أتذكر الفيلم لقطة لقطة، لا بل وأنا أكتب ما أكتب أتذكّر أن أغنية فهد بلان "تحت التفاحة وما يشوف الراحة..." ما تطالع فضة وهو يقلّب المحطات قبل أن يركض في البراري، فقد عدت حينها وشاهدته لثلاث مرات، لكن كنت أخبر جدتي بأنني ذاهب إلى السينما، فهي في المرة الأولى أعلنت حالة طوارئ في حلب، فأصغر أحفادها اختفى لأكثر من خمس ساعات ولا تعرف أين هو!تعرفت على عبد اللطيف عبد الحميد في عام 2007 حين عرض "خارج التغطية" في مهرجان دبي السينمائي، حكيت له ما أسلفت، وتوالت اللقاءات، ويا لها من نوادر عجيبة وكثيرة تعاودني الآن، سأذكر واحدة منها، متصلة بمقال كتبته عن أحد أفلامه، لم يعجبه المقال أبداً، وأوصل لي امتعاضه عبر أكثر من صديق مشترك! على كل ليست هذه هي الحكاية، فبعد سنة أو سنتين سمعت أن "ما يطلبه المستمعون" يعرض في الجامعة الأميركية في الشارقة، وقد كان هو الفيلم الوحيد من أفلامه الذي لم أشاهده، فقصدته، فإذا العرض بحضور مخرجه، وحين دخلت الصالة رمقني بطرف عينه.قادتني نهاية الفيلم إلى نوبة بكاء عارمة، بذلت جهداً جهيداً في السيطرة عليها لئلا يملأ صوت نحيبي الصالة. حين خرجت وجدته واقفاً قرب الباب، فصافحته وما زالت آثار محاولات السيطرة على البكاء حاضرة، فلازمت الصمت، فقال لي ساخراً: "شو يا أستاذ يا عظيم شو رأيك بالفيلم؟"، فأجبت: "والله بكّيتني"، فقال: "خرجك بتستاهل"، فانتقلت من البكاء إلى الضحك، الضحك العارم، كما هو الحال في أفلامه الكثيرة حيث يجاور الضحك البكاء، كما في الحياة التي فارقتها بالأمس، عسى يحيط بك الضحك وتظللك البهجة في عالم آخر له "نسيم الروح".(*) مدونة نشرها الكاتب زياد عبدالله في صفحته الفايسبوكية