استيقظُ من النوم على رسالة لصديق في الوتسآب تقول "بول أوستر رائع"، لا أعيرها أهمية. أفتح الفايسبوك تصلني رسالة أخرى تقول "بول أوستر مات". أشعر بإرباك شديد، عدا عن أني كنت في لحظة تسيطر عليّ فيها الطلاسم. أفكّرُ كيف سأكتب عن عالم أوستر الواسع، الذي لطالما تسابقت دور النشر في العالم العربي، على ترجمة أعماله الروائية وأشعاره وحواراته (المتوسط، الآداب، وسم، المدى، أثر، شركة المطبوعات). اللمصادفة، أقرأ في أول مقال عنه، عبارة وردت في روايته "ليفياثان" (1992): "لا أحد قادراً على قول مِن أين يأتي كتاب ما، ناهيك عن كاتبه. تنبثق الكتب من الجهل، وإذ تستمر في الحياة بعد كتابتها، نبقى غير قادرين على فهمها كلياً".الكاتب الذي كان أصيب بالسرطان قبل أشهر، ولم ينجح في التغلب على المرض، ولد العام 1947 في ولاية نيوجيرسي (شرقي الولايات المتحدة)، كان يقول "يولد الفن من المحنة". بدأ يدرك في سن السادسة عشرة، ميله إلى أن يكون كاتباً وليس العمل في أي مهنة أخرى. بعد تخرجه في جامعة كولومبيا، وحصوله على درجة الماجستير العام 1970، لكسب لقمة العيش، قام أوستر بالتدريس في جامعة كولومبيا ولاحقًا في جامعة برينستون، وعمل في ترجمة ونشر المؤلفين الفرنسيين، بما في ذلك جان بول سارتر. كان ضد المشاركة في حرب فيتنام، عاش بين باريس التي أحبّها، ونيويورك، مكان إلهام رواياته. في كتابه "تباريح العيش" يقول أوستر: "عندما ناهزت سن الـ30، مررت بفترة دامت سنين عديدة، كلما باشرت فيها أمراً كان مآله الفشل. صار زواجي إلى الطلاق، وكانت كتابتي تتعثر، وكانت الصعوبات المالية تضنيني. فأنا لا أتحدث فقط، عن حاجة ظرفية، ولا عن ضرورة محتملة أتقشف فيها أحياناً، بل عن حاجة إلى المال دائمة، وساحقة، أشبه بخناق، تعكر صفو روحي، وتجعلني أسير حال من الرعب لا ضفاف لها".أتاح له ميراث والده الذي توفي العام 1979 التفرغ للكتابة. وقد ذاع صيت أوستر العام 1982 بفضل "اختراع العزلة"، وهي رواية مستوحاة من سيرته الذاتية يحاول فيها فهم شخصية والده. وتؤدي المصادفات دوراً محورياً في كتاباته، إذ تُغيّر مصير شخصياته في أحيان كثيرة. شهرة الروائي العالمية، خصوصاً في أوروبا، تعود بشكل رئيسي إلى منتصف الثمانينات، فقد أرسل مخطوطة رواية "مدينة من زجاج" إلى 17 ناشرًا، رفضوها جميعًا. إلى أن صدرت عن طريق ناشر صغير في كاليفورنيا العام 1985 وسرعان ما وصلت إلى لائحة الكتب الأكثر مبيعًا. كانت "مدينة الزجاج" جزءاً من ثلاثية نيويورك، تضاف إليها "أشباح" و"الغرفة الموصدة"، حيث تبحث الشخصيات عن هويتها على طريقة المحققين في متاهة مانهاتن التي تعج بناطحات السحاب، لكن كل شيء فيها يبدو كأنه وهم وسراب. عدا ذلك، يقول أوستر "فكرة الحظ هذه لا تعنيني".واصل الكتابة. أطلق "في بلد الأشياء الأخيرة" العام 1987، وهي رواية رسائلية بائسة تصف العالم من وجهة نظر امرأة بلا مأوى وتحظى باهتمام كبير. وتتناول رواية "قصر القمر" العام 1989 البحث عن الهوية. وتشمل الأعمال الأخرى "ليفياثان" 1992، "كتاب الأوهام" 2002، "ليلة التنبؤ" 2003، "رجل في الظلام" 2008، "حديقة الغروب" 2010، و"4 3 2 1" العام 2017، وهي التي وصلت إلى لائحة البوكر القصيرة، وتتألف من 1000 صفحة تقريباً من الخيال التأملي الباحث في الدروب المختلفة التي قد تسلكها الحياة. كان أوستر كاتب سيناريو، وعرف خصوصاً في هذا المجال بفيلم "سموك" (Smoke)، الذي تتمحور قصته حول شخصيات تعيش في الضياع حول متجر للتبغ في بروكلين، إضافة إلى تكملة العمل بعنوان "بروكلين بوغي"، وهما فيلمان أنجزهما مع واين وانغ. ومن أعماله الناجحة الأخرى، "مون بالاس" (1989) و"ّذي بوك أوف إيلوغنز" (2002) و"ذي بروكلين فوليز" (2005).وقد حظي بول أستر بتقدير خاص في فرنسا التي كان يعتبرها "بلده الثاني"، وحصل فيها على جائزة ميديسيس للرواية الأجنبية عن كتابه عن "ليفياثان" العام 1993. كان بعض النقاد يعتبره "الأميركي الأكثر أوروبية"، لكنه يرفض هذا التصنيف.وكان أوستر يجاهر بتأييده للحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة، وقد انتقد في أحد كتبه سياسات الرئيس السابق جورج بوش. واعتبر أن ترامب يسمم الأجواء. أما بالنسبة إلى هويته فكانت موضع غموض، لا تأخذه مسألة أصوله ولا تعذبه مسألة "الهوية" (يهودي من نيويورك).وفي نيسان 2022، فقد ابنه دانيال أوستر (44 عاماً) الذي رُزق به من الكاتبة ليديا ديفيس، زوجته الأولى. وقد توفي أوستر الابن بسبب "جرعة زائدة عرضية" في نيويورك بعد اتهامه بالقتل غير العمد إثر وفاة ابنته روبي، البالغة 10 أشهر فقط، نهاية العام 2021، بجرعة زائدة أيضاً.على الرغم من تشخيص إصابته بالسرطان في العام نفسه، أكمل بول أوستر كتابه الأخير المفعم بالحنين، بعنوان "بومغارتنر"، وهو عمل "لطيف وعجائبي" وفق توصيف زوجته هوستفيت.كان تدوين القصص على الورق هوسه، وقال ذات مرة لصحيفة "دي تسايت" الألمانية الأسبوعية: "الكتابة ليست عملاً من أعمال الإرادة الحرة بالنسبة إلي، إنها مسألة بقاء".