2024- 05 - 02   |   بحث في الموقع  
logo طقوس خاصة بـ”بيلنغهام” قبل كل مباراة فما سرّها؟ logo بين توهّج لونين وعودة كورتوا.. ريال مدريد ينتظر أزمة المركز الأساسي logo إعادة تشكيل التحالفات: أيار حاسم رئاسياً وإقليمياً؟ logo في أقل من أسبوع.. أعاصير مدمرة وفيضانات اجتاحت هذه الدول logo هاليفي: قواتنا تستعد لهجوم في الجبهة الشمالية logo إسرائيل تستعد لـ"هجوم في الشمال" و"الحزب" ينفذ ثلاث عمليات logo تقرير إسرائيلي: فرصة استراتيجية لإضعاف حزب الله logo عصابة "تيك توك" لاغتصاب الأطفال...توعية الأهل واليافعين باتت مُلحّة!
أحمد سعداوي... ماركيز في ذكراه العاشرة بلا "ماركيزية" أبنائه
2024-04-19 13:25:47

قام ذهني، خلال إعداد القهوة صباحاً، بقفزات حرّة وسريعة من ماركيز الى إيتالو كالفينو (1923-1985).بدأت القفزة الأولى من فكرة محددة: لم يكن ماركيز يخفي مصادر تأثره الأدبي، فيذكر معلّمه الكولومبي ألفارو سيبيدا ساموديو (1926-1972) صاحب الرواية الشهيرة "البيت الكبير" والتي كانت أشهر تمثّل لاتيني ناجح لتأثير إسلوب الأميركي الشمالي وليم فولكنر (1897-1962). ولم يُخفِ ماركيز تأثره، بل اعجابه الشديد بفولكنر نفسه، وسنرى انعكاسات لأسلوب ساموديو وفولكنر واضحة في أدب ماركيز. ربما هناك مصادر تأثير أكثر حسماً، لكن ما يعلنه ماركيز، من دون عقد أو حساسيات، يساعد على فهم طبيعة التواصل بين الآداب الكبيرة، ونصوصها الآتية من أصقاع شتّى.وتحت هذه الفكرة يعلن ماركيز عن تأثره واعجابه برواية "بيت الجميلات النائمات" للياباني ياسوناري كاوباتا (1899-1972)، وظل شبح هذه الرواية النوفيلا القصيرة يطارده دائماً، حتى واجهه بخياله الأدبي لينتج لنا روايته "ذكرى غانياتي الحزينات" ويصدرها في العام 2004.***
القفزة الثانية: أصدر الإبريق على النار صوت صفير حاد، لقد اكتملت القهوة.
قرأت شيئاً في هاتفي المحمول، وأنا واقف في المطبخ، عن حادثة جسر ماركو بولو التي اشعلت الحرب بين اليابان والصين في 1937 خلال توسع اليابان الفاشي وغزوها للصين.
تركت الحرب وذهبت مع ماركو بولو، وتذكرت بقفزة أخرى سريعة، رواية ايتالو كالفينو "مدن لا مرئية" التي صدرت بالايطالية للمرة الأولى في 1972. وتدور أحداثها حول شخصية ماركو بولو نفسه، الرحّالة والتاجر الإيطالي، الذي كوّن علاقة مميزة مع امبراطور الصين المغولي "قوبلاي خان".قرأت الرواية مترجمة الى العربية من قبل الشاعر والمترجم العراقي القدير ياسين طه حافظ، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وصدرت عن دار الشؤون الثقافية ببغداد.
تحكي الرواية سرديات متخيّلة على لسان ماركو بولو، وكالفينو نفسه يقول بأنه حرص على أن تكون الرواية ما بين السرد والبناء اللغوي لقصيدة النثر.***
سكبت القهوة الساخنة في كوب كبير من السيراميك، وقفز ذهني قفزته التالية:
منذ قرأت "مدن لا مرئية"، وهي تستولي على ذهني وخيالي. وبسببها تتبعت كل ما ترجم لكالفينو من روايات. وكانت كلها مثيرة وجميلة، لكنها لم تملك الأثر والموقع ذاته في نفسي مثل "مدن لا مرئية".يتشابه غارسيا ماركيز مع ايتالو كالفينيو بأشياء عديدة، ليس منها فقط أنهما عاصرا فترة تاريخية واحدة، وأنهما يقيمان على طرفي العالم اللاتيني، الذي يبدو، بشكل من الأشكال، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكأنه عالم الأبواب الخلفية لأوربا والغرب عموماً.قلنا أن ماركيز يعتبر الأميركي فولكنر عرّابه الأدبي، ونجد أن كالفينو أيضاً يعترف بالتأثير الطاغي للأدب الأميركي الحديث في الثقافة الايطالية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي أدبه هو نفسه.يشترك الكاتبان في ميلهما الى مزج الكتابة الواقعية مع إمكانات الفنتازيا والخيال والأحلام. إن منهج كالفينو معروف في هذا المجال. لكنه أكثر تجريبية من ماركيز، ولا يمكن حصره في أسلوب واحد.***
أشرب من قهوتي وأفكر، منتقلاً بقفزة جديدة وربما أخيرة؛ أنني ملاحق بشبح "مدن لا مرئية"، وحين قرأت عن حكاية ماركيز مع رواية كاوباتا القصيرة، شعرت بالطمأنينة؛ فليست هذه حالة مرَضية، وربما سأقوم، ذات يوم، مثل ماركيز، بالتخلّص من ظلال "مدن لا مرئية" بكتابة تعيد انتاج الأثر الذي خلّفته في نفسي، لكن بقصّة جديدة، قصّة تشبهني أنا.في "مدن لا مرئية" يختط كالفينو مساراً خيالياً لأحاديث ماركو بولو أمام الامبراطور المغولي/الصيني. ففي الأصل التاريخي، كان بولو يروي مشاهداته والحوادث التي حصلت معه في المدن التي مرّ بها خلال الطريق الطويل من ايطاليا الى الصين. في الرواية، يحكي عن مدن خيالية، لا مرئية، أو لا يمكن للعابر الكسول أن يلاحظ وجودها، إنها المدن التي تختزنها ذاكرة ومخيلة ماركو بولو. إنها المدن التي اخترعها، أو يشعر بأنها موجودة، لكن لا دليل على وجودها سوى أحاديث ماركو بولو.من المثير أن ماركو بولو مرّ مع والده، منتصف القرن الثالث عشر، في رحلتهما الأولى، ببغداد، نزولاً الى خليج البصرة، في طريقه الى الصين. أي، بعد أعوام على سقوط بغداد في أيدي المغول. كان الشرق كلّه في أيدي المغول، من أوراسيا كلها والشرق الأوسط الى الكوريّتَين وجنوب شرقي آسيا.***لكن، أين شطح خيالي هنا؟!
سأوقف هذه القفزات الحرّة، وأعود الى "مدن لا مرئية" وحلم التخلّص منها على طريقة غارسيا ماركيز.***
في آذار الماضي قام ورثة غارسيا ماركيز بنشر روايته الأخيرة تحت عنوان "حتى أغسطس" في مخالفة لوصية ماركيز نفسه. كذلك سيظهر هذا العام في منصّة نتفليكس، مسلسل مقتبس من رواية ماركيز الأشهر "مائة عام من العزلة" في مخالفة أيضاً لوصية ماركيز. ويرى ابنه الأصغر غونزالو بأن لديهم وجهة نظر تقدّر أهمية الجوانب الرائعة في هذه التجربة، وأن والدهم الراحل كان ينظر الى الجانب السيء فقط.***
على أية حال، يرى الكاتب جونوت دياز بأن ما فعله ورثة ماركيز يعطي مثالاً صارخاً لضغط "النيوليبرالية" التي تهتم بالأكثر تسويقاً، بغض النظر عن القيم أو المواقف. حتى لو كان عملاً غير مكتمل بمئة وخمسين صفحة (بعد خمس مسوّدات مرهقة) كما هي رواية "حتى أغسطس" التي قال ماركيز في موقفه الختامي منها: إنها غير قابلة للنجاح... يجب إتلافها.***
فعل ورثة ماركيز، في سياق مختلف، ما فعله صديق فرانتز كافكا المقرّب، ماكس برود، حين طلب منه اتلاف المسوّدات غير الكاملة بعد وفاته. لكن برود قام بنشرها، ثم صار الناطق الحصري باسم "تراث فرانتز كافكا"، ومنح العالم صورة محدّدة عن كاتب سوداوي كئيب يخلق عوالم كابوسية.هذه الصورة تعرّضت لنقد شديد من قبل ميلان كونديرا، واتهم ماكس برود بأنه خلق "كافكوية" غير أمينة لكافكا نفسه (المتهكم الساخر الباخوسي)، وانما لتصورات ماكس برود الخاصّة ذات النفَس المسيحاني. وأن قراءة كافكا الأدقّ يجب أولاً أن تستبعد، بشكل تام، كافكوية ماكس برود.***
يقول جونوت دياز (الحائز جائزة بوليتزر للرواية 2008) إنّ أبناء ماركيز أجبروه على اداء رقصة أخيرة رغماً عنه.إن قراءة هذه الرواية ترينا الكلمات الأخيرة لماركيز، وترينا، في الوقت نفسه، الرغبة الحرّاقة لتدميرها تطلّ علينا من بين السطور. إنها ليست أفضل أعمال ماركيز بالتأكيد، لكنها تمنحنا سخرية أخيرة من كاتب كان يتلف مسوّداته دائماً في حالة من الهوس المرَضي. إنه كتاب لم يره ماركيز، ولم ينشره، إنه صادر من حالة تشبه "كافكوية" ماكس برود. يمكن أن نسميها "ماركيزية" أبنائه الذين صارت على عاتقهم إدارة مؤسسة مجد وشهرة أبيهم الراحل، نحو اتجاهات لا يؤيدها ماركيز بالضرورة.(*) مدونة نشرها الروائي العراقي أحمد سعداوي في صفحته الفايسبوكية، في مناسبة الذكرى العاشرة لرحيل الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927-2014).



المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top