لدى لبنان تجارب كثيرة وخطرة في آن، مع مسارات التفاوض في معالجة الأزمات العسكرية والأمنية التي يشهدها، إما على حدوده الجنوبية أو في الداخل. محطات تفاوض كثيرة واتفاقات أكثر، لطالما جرى الإعلان عنها وما لبثت أن انهارت أو أسقطتها الظروف والوقائع الميدانية والتطورات السياسية الإقليمية. لطالما أوحى الإسرائيليون بأنهم يريدون التفاوض مع لبنان ويسعون إلى توقيع اتفاقيات، لكن سرعان ما يتم الانقلاب عليها، لأسباب متعددة.ثقة مفرطةمناسبة التذكير بتك المحطات هي ثقة لبنانية مفرطة بعدم توفر أي ظروف حربية إسرائيلية على لبنان تحاكي الحروب السابقة. معطوفة على ثقة لبنانية بالمسار الأميركي الذي يكرسه المبعوث آموس هوكشتاين للوصول إلى تفاهم. يزهو بعض اللبنانيين بنجاحهم في إقناع هوكشتاين بأن معادلة جنوب لبنان مرتبطة بجبهة غزة، وأن المبعوث الأميركي أصبح على يقين بأن لا وقف للعمليات العسكرية في الجنوب اللبناني قبل الوصول إلى وقف لإطلاق النار في غزة. لكن المسؤولين المتابعين لمسار التفاوض يؤكدون أن "الاتفاق ناجز" وأصبح معروفاً، ولكن لا تطبيق له قبل وقف النار في غزة. قوام الاتفاق هو ثلاث مراحل. الأولى، وقف العمليات العسكرية. الثانية، تعزيز وجود الجيش اللبناني وإدخال قوات جديدة له، بناء على توفير دعم خارجي من دول متعددة لزيادة عديده. بالإضافة إلى تعزيز وجود قوات الطوارئ الدولية، اليونيفيل. وتؤكد مصادر متابعة لبنود الاتفاق أنه لن يتم ذكر انسحاب حزب الله أو قوات الرضوان من جنوب نهر الليطاني. ولكن هذه ستكون نتيجة فعلية بمجرد وقف المظاهر المسلحة وإدخال الجيش وتعزيز اليونيفيل. أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة التفاوض على الانتهاء من تثبيت الحدود البرّية.تحذيرات فرنسيةلكن مسألة جديدة تطرأ على أدبيات بعض الساسة اللبنانيين، وهي تتصل بالانتقال من مرحلة انتظار الحرب على غزة وتوقفها، إلى انتظار مآلات الصراع بين إيران وإسرائيل، لأنها تنعكس على لبنان بشكل مباشر. خصوصاً في ظل وتيرة التصعيد المتزايدة للمواجهات بين حزب الله واسرائيل في الأيام الماضية، وتحديداً بعد الضربة الإيرانية على إسرائيل وتعهد تل أبيب بالرد، وسط محاولات أميركية لثنيها عن هذا الردّ ضد ايران، مقابل محاولة إسرائيلية لانتزاع غطاء أميركي لاستكمال عملية رفح، والرد على إيران في ساحات أخرى قد يكون لبنان من بينها.
لذا، يقتنع اللبنانيون أن أي تسوية أو حل لأزماتهم السياسية والعسكرية هو مرتبط بتسوية شاملة في المنطقة من غزة إلى إيران.
دون ذلك، يستسهل اللبنانيون القدرة على الوصول إلى تفاهم واتفاق يعتبرونه منجزاً لدى الأميركيين، في مقابل سماعهم لتحذيرات فرنسية بعدم الإفراط بالثقة، لأن الوقائع قابلة للتغير. ولطالما كان هناك اتفاقات حصلت في لبنان سرعان ما جرى الانقلاب عليها. خصوصاً أن هناك حالة هستيرية في إسرائيل، ونزعة دائمة لتصعيد المواجهات العسكرية. الذاكرة والتجاربثمة من يعود بالذاكرة إلى تجارب لبنانية كثيرة، ففي أواخر العام 1976 أطلق على الحرب اللبنانية تسمية "حرب السنتين". ومع انتخاب الياس سركيس حصلت حوارات كثيرة لوقف الحرب ووضع اتفاق دستوري. لكن الحرب استمرت 15 سنة. وسنة 1976 حصلت لقاءات بين كمال جنبلاط وبشير الجميل للاتفاق على ورقة إصلاح سياسي ودستوري. لكن سرعان ما تم ضرب هذا المسار باغتيال كمال جنبلاط.
في العام 1978 شن الإسرائيليون عملية الليطاني لإنشاء حزام أمني، وجاء انتشار قوات الأمم المتحدة، أملاً بإبعاد الفلسطينيين عن الحدود وانسحاباً إسرائيلياً بالمقابل، لكن ذلك لم يحقق المطلوب، وصولاً إلى اجتياح العام 1982. وعلى الرغم من خروج منظمة التحرير من لبنان إلا أن المقاومة استمرت، ومعها تم إسقاط اتفاق 17 أيار 1983. وفوق ذلك أتت كل الأوراق والأفكار والمؤتمرات من مؤتمر مدريد للسلام، إلى حرب تصفية الحساب 1993، فحرب عناقيد الغضب في العام 1996 وما بينهما من مطالبات لبنانية ودولية بتطبيق القرار 425، وصولاً إلى التحرير عام 2000، والذي بقي ناقصاً باستمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ لبنانية، وعدم انجاز عملية ترسيم الحدود البحرية والبرية بشكل نهائي، والتي لا تزال مستمرة إلى اليوم، بما شهدته من نزاعات عسكرية وسياسية تفاوضية منذ عملية الترسيم البحري. كل هذه التجارب لا تشير إلى إمكانية الثقة في أي اتفاق قد تطيح به الوقائع على الأرض.