"غزة"... الحياة بأي ثمن
2023-12-22 17:30:33
بعد 19 شهراً من الصراع، وعشية شتاء قاسٍ آخر، يبدو أن الحرب في أوكرانيا وصلت إلى طريقٍ مسدود استراتيجياً، في ظلّ عدم وجود حلّ بديل أو مخرج واضح. الواضح الوحيد هو الإرهاق الذي سيطر على الخطابات حول الحرب، بما فيها تلك المتحالفة مع الموقف الأوكراني. إرهاق عسكري، وإعلامي أيضاً. وهو ما يترك آثاراً ممتدة دالّة وكاشفة. فثمة خيط ناظم يربط برميل البارود الروسي/الأوكراني بما يجري حالياً في قطاع غزة، وهو مخيف بحدّ ذاته حين انكشاف وإدراك المفارقة المؤلمة في تعاطي العالم مع كل من الحربَين. هنا يبرز دور السينما في تناول الصراعات الكبرى من منظور مغاير لمنطق الحرب الذي يعيد إنتاج نفسه، من حسيب أو رقيب، وينتشر بسرعة عبر التغطية الإعلامية وتداعياتها في شبكات التواصل الاجتماعي، ما يولّد انطباعاً زائفاً عن قُرب الحروب، وعن الحميمية المتلصّصة للعنف.يظهر التسجيل السينمائي الوثائقي كلغة لمسافة مأخوذة من الصراع، حتى إن التُقط في خضم الحدث ذاته. هناك فيلمان – "يوماً في ماريوبول"(2023) و"غزة"(2019) – يوضّحان هذا الاقتراح، وكلاهما صُوِّر في مناطق حرب محاصرة وعايَن الأضرار والأكلاف الهائلة والمستمرة والمقيمة التي تخلّفها الحرب في أرواح مَن يجدون أنفسهم - بلا أدنى استعداد - وقوداً وأضراراً جانبية لآلتها الرهيبة. في هذا المقال نظرة مقرّبة واستعادية للفيلم الأخير، وإن كان الأقدم نسبياً، إلا إنه نظراً لانشغاله بتناول تأثيرات حرب 2014 على الغزّيين، أبعد من التناولات الإخبارية والإعلامية، سيجده مُشاهده راهناً ووثيق الصِّلة بالحرب الحالية: اختيار هذا الفيلم تحديداً ليس تجاهلاً لغيره، بقدر ما هو إعادة تذكير بالحيوات خلف الأرقام، والخسائر الجانبية التي لا يؤتى على ذكرها، والحياة التي يتمسّك بها الغزّيون رغم كل شيء وبأي ثمن."غزة"، الذي أخرجه الأيرلنديان غاري كين وأندرو ماكونيل، في العام 2019، اتخذ موضوعاً مأساوياً ومدمّراً هو الحرب على قطاع غزة. مصطلح "حاضر واقعي" لا معنى له في هذا السياق، فالحاضر والمعاناة وخطر الموت حالات ثابتة ومقيمة بالنسبة لسكان القطاع المحاصر: الماضي حاضرٌ دائماً والمستقبل بلا آفاق. أرضٌ زاخرة بأزمان وعصور متداخلة، استعمارية وتوراتية، ولهذا السبب بالذات، فهي أرضٌ مليئة بالانقسامات، وشظايا أزمانها وأزماتها تتفرّق وتعود، إلى ما لا نهاية.يربط الكتاب المقدس غزّة بشكل رئيسي بالفلسطينيين. أعطى الله المدينة ليهوذا، لكن بني إسرائيل فشلوا في طاعة الربّ وطرد سكّان كنعان السابقين (سفر العدد 33: 51-53). وبسبب هذا العصيان، ظلّ الفلسطينيون ومدينة غزة حجراً في حذاء إسرائيل لقرون (سفر القضاة 2: 3). وقال الله (لسبط يهوذا): "تطردون جميع سكان الأرض من أمامكم، وتهدمون جميع أصنامهم المسبوكة، وتكسرون جميع مرتفعاتهم، فتملكون الأرض وتسكنون فيها لأني أعطيتكم هذه الأرض لتمتلكوها". والاستشهاد بالنصّ الكتابي ليس مجرد ممارسة بلاغية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بفيلم مثل "غزة"، فاليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي يلعب دوراً حاسماً في تغذية صفاقة الاحتلال، يستخدم التوراة كمنصة سياسية لاستبدال القانون العلماني الحديث، المفترض تأسُّس الدولة الصهيونية عليه. والتوراة هي الأسفار الخمسة الأولى من"العهد القديم"، الكتاب المقدس لليهود، وأصلها من الكلمة العبرية "يارا" والتي تعني التعليم أو الإرشاد أو الشريعة. معاً تتلو هذه الأسفار قصة بني إسرائيل التاريخية منذ بداية الخلق وحتى التيه في الصحراء بعد الخروج من مصر، وترصد في الوقت ذاته تطوّر العلاقة بين الربّ وبني إسرائيل وصولاً لعبورهم إلى "الأرض الموعودة".المعركة السياسية الأخيرة داخل إسرائيل قبل 7 أكتوبر (حول التعديلات القضائية وتقويض سلطة المحكمة العليا) تملك هذه الخلفية الدينية في صلب الدعوة إليها والدفع بها، لتثبيت دعائم دولة ثيوقراطية عنصرية هدفها الأساسي التخلّص من كلّ ما/مَن هو غير صهيوني. وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى قطاع غزة وسكّانه الذين يزيد عددهم عن مليوني نسمة، بما هو نتاج - من بين أمور أخرى - جهدٍ تنظيمي بشأن وضعٍ إقليمي معقّد، بدأ مع مباركة الأمم المتحدة إنشاء دولة إسرائيل في العام 1947. ومن حينها يراوغ الإسرائيليون أي محاولة للتوصّل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، سكّان الأرض الأصليين: نشبت حروب وطُرد مئات الآلاف ممن وُلدوا وعاشوا في أراضي ما سيُعرف بأسرائيل وانتهى بهم المطاف لاجئين أبديين في ذلك الشريط الضيق جنوباً، المُحاط بإسرائيل ومصر والبحر الأبيض المتوسط.من حيث الأسلوب، يتتبّع الفيلم الناسَ في غزة وهم يروون تجاربهم الخاصة. اقتراح ذكي وأصيل من صانعي الفيلم الذين رأوا أن أفضل طريقة لإخبار الناس (خصوصاً الغربيين) عن غزة هي ترك المجال لأهلها لرواية قصصهم بأنفسهم لأننا نادراً ما نرى ذلك. نرى المعلّقين السياسيين، ونرى السياسيين يتحدثون طوال الوقت في الأخبار، ونادراً ما نرى فلسطينياً عادياً في غزة يعبّر عن أفكاره حول وضعه. في السعي ذاته لمقاربة الموضوع بلسان أهل الشأن، يتوافق الاختيار الفنّي مع إفساح المجال لرواية قصّة أوسع، بنسيج من الشخصيات تعبّر (ما أمكن) عن مجتمع غزّة المتنوع والثري. لأنهم ليسوا أرقاماً ولا كتلاً صماء متشابهة. لكل غزّي قصة يرويها، وبالإمكان تخيّل إنتاج أربعة أو خمسة أفلام شبيهة.كان على صنّاع الفيلم البحث عن الصغار والكبار والرجال والنساء والطبقات والهياكل المختلفة، وكان عليهم أيضاً ابتكار احتمالات من أجل رؤية أكبر قدر ممكن من الشريط الغزّي، ولهذا السبب ذهبوا للبحث عن سائقي سيارات الأجرة ممن يمكنهم اصطحابهم و"تفريجهم" على غزّة فعلياً. لذا فإن ما بدأ كتحدٍ كبير لسينمائيين غريبين على أرضٍ غريبة، انتهى إلى إنتاج قوة سينمائية هائلة."غزّة" الفيلم، يُنظم بهدفٍ واضح، وهو إظهار الحياة في ذلك الجيب بطريقة تتجنّب الصور المعتادة المبثوثة في نشرات الأخبار: فقر، مأساة، دمار، قتلى وجرحى من المدنيين (خصوصاً الأطفال)، جنود ملثمون وشبان يرشقونهم بالحجارة، مبانٍ مهجورة وسط أنقاض يتصاعد منها الدخان. يعمل الفيلم كنافذة جميلة وعاطفية وواقعية للغاية، على الحياة اليومية لأشخاص عاديين، يعيشون في أحد أكثر المناطق نكبةً على وجه الأرض. ففيما يواصل جيش الاحتلال قصف مخيمات اللاجئين والمخابز والمدارس والمستشفيات وأماكن العبادة بالقنابل، من المهم تذكُّر أن كل حياة تُزهق هي نهاية عالم بأكمله.ويبقى "غزة" ضمن مجموعة من هذه العوالم الثمينة. هنا يظهر راكبو أمواج وصيّادون بشكلٍ بارز وتُجرى مقابلات معهم، من بين آخرين رافقهم الفيلم طوال أربع سنوات: امرأة شابّة من عائلة ثرية؛ سائق تاكسي كريم ودمث الأخلاق؛ فتاة مراهقة تجد العزاء في عزف التشيلو؛ صبي ينام على الشاطئ ويحلم بالحرية وراء الأمواج؛ مسعف يعالج جروح المتظاهرين الشباب العائدين من الحدود الإسرائيلية، صيّاد لديه عشرات الأبناء، يعترف بأنه تخلّى عن زوجته الرابعة بسبب العالم المأسوي الذي سيستقبل النسل الجديد... يظهرون جميعاً ليُشهدونا على الظروف القاهرة في شريطٍ صغير محاصر من الأرض، لديه الكثير ليقدّمه وأكثر بكثير ليأخذه في الوقت ذاته، ويجدون الأمل في الموسيقى والعائلة والبحر.
لا يهتم صناع الفيلم كثيراً بالسياسة، ومن الواضح أين يتعاطفون، بل يسلّطون الضوء الضروري على أشخاص أسيء فهمهم. لا تركيز على تعليقات سوسيواجتماعية بعينها، ولا دفع للحوار باتجاهات محدّدة: فقط بضع كلمات عن العدد المرتفع للشباب العاطلين عن العمل، أو حتى عن الصعود السياسي لحماس. البطالة، والبؤس، وانقطاع التيار الكهربائي، والحدود التي لا يمكن اختراقها، واندلاع أعمال العنف التي تتخلل الحياة في غزة، تؤكّد حياة كل مَن يظهر - ولا يظهر - في الفيلم. في أحد المشاهد، يقول المخرج المسرحي علي أبو ياسين: "هناك حاجز في غزة يمنع الناس من الحياة نفسها. حاجز بين الناس وأحلامهم".لكن شيئاً فشيئاً، يبدو تصميم السجن المفتوح المكشوف للشمس، الذي تمثّله غزّة، عصياً على الاندراج كلياً تحت هذه النظرة الأوروبية الوادعة. فالبحر، مثلاً، كمصدر للغذاء واستعارة مكانية للحدود الوجودية، يعمل أيضاً بمثابة تكرار داعم للصور المبتذلة لغروب الشمس، وليس صدفةً أن يختار الفيلم في إحدى لقطاته التي يظهر فيها البحر، تضمين شكوى عازف التشيلّو من الأجانب "الذين لا يقدّمون لنا سوى كلمات التعاطف". يستذكر الصيّاد العجوز أعمال دوريات الزوارق الحربية الإسرائيلية، فهم يرمون مياه الصرف الصحي على مَن يغامر بالصيد خارج الحدّ المسموح به في البحر وهو 10 كيلومترات، وذلك حين لا يعتقلون المغامرين من راكبي الأمواج (أمضى ابنه عامين في السجن بسبب هذا العمل الجريء). تدريجياً، ترتسم ملامح عيش قلِق في منطقة حرب فارغة، مليئة بالتوترات والإهانات، وغير مستقرّة إلى حدّ خطير.قُرب نهاية الفيلم، يدوي الرصاص من جديد في غزة، منتصف أيار/مايو 2018، بعدما جرت في آذار/مارس من ذلك العام أولى التظاهرات المعروفة باسم "مسيرة العودة الكبرى"، للمطالبة بالسماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى الأراضي التي نزحوا منها في ما يُعرف الآن بإسرائيل. جرت التظاهرات كل يوم جمعة حتى كانون الأول/ديسمبر 2019، وأدّى اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة للدولة اليهودية، إلى تفاقم الاحتجاجات.في البداية تم تنظيمها من قِبل نشطاء مستقلين، وسرعان ما أقرّتها "حماس". في الفيلم، سرعان ما تطوّرت الأجواء، وقطعت أصوات الطنين السماء واشتعلت شرارة الحرب من جديد. مبدأ الواقع، تأجيل الحياة (ومنعها) لأولئك الساعين إلى تجنّب الألم، يفرض نفسه مرة أخرى. لكن يبقى مبدأ الأمل فلسطينياً. في هذه الأسابيع المظلمة والمجرّدة من الإنسانية، تجدر مشاهدة "غزة"، لفهمٍ أكثر إنسانية للماضي الذي يثقل كاهل أي أمل في المستقبل.
lea maria ghanem