“إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا، فعلينا أن نعرف ماذا في البرازيل” ، هي العبارة التي ردّدها الممثل “نهاد قلعي” في المسلسل الفكاهي ” صح النوم” ، والتي تفاعل معها النّاس بكثير من الضحك والكوميديا المجرّدة من أية نيّة.
أمّا اليوم، فإنّنا نرى أنّ لهذه العبارة معانيَ خفيّة وعميقة، بل ربّما أصبحت حقيقة أو أساسًا من أساسيات حياتنا، إذْ نادرًا ما تكون الأزمات والصّراعات والمشاكل في الدول والأماكن المختلفة غير متّصلةٍ أو مترابطة.
ومن هنا ، فإنّنا نقول: إذا أردنا أن نعرف ماذا يحصل في غزّة واسرائيل، فعلينا أن نعرف ماذا يحصل في روسيا وأوكرانيا.
في كتابه: The Rise and Demise of the British World Order and the Lessons for Global Power
يجري المؤرخ الأسكتلندي الأصل الأمريكي الجنسيّة “نيل فيرجسون”مقارنة بين بريطانيا في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية والولايات المتحدة الامريكية اليوم ، ليخلص الى أنّ علامات تراجع وأفول الامبراطورية البريطانية آنذاك، هي شبيهة بما يحدث مع الولايات المتّحدة حاليا . كذلك فعلت العديد من الدّراسات الّتي ركّزت على أنّنا على مشارف نظام عالمي ينحسر ، مع تراجع النفوذ الأمريكي و ظهور قوى جديدة على المسرح العالمي ، كروسيا والصين اللتين بدأتا تغيّران التّوازنات الدّولية ، وتسحبان البساط شيئا فشيئا من تحت أرجل المعسكر الغربي.
ومع أنّنا لا نتّفق مع فكرة أفول النّفوذ الأمريكي، بل نرى أن أمريكا ما زالت تحتفظ بكل تسيّدها وسيطرتها وحضورها وألقها على السّاحة العالميّة، وما زالت تمسك بزمام النّظام الدّولي ؛ إلّا أنّه لا يمكننا أن ننكر في الوقت عينه، الصّعود الصيني الآخد في التّزايد، والّذي أصبح يشكّل تهديدا للاحتكار الأمريكي في قيادة دفّة العالم. فهل أصبحت أوراق اعتماد الصين جاهزة للمشاركة في قيادة العالم؟ وما هي الطرق الّتي تسعى إليها أمريكا لمواجهة الصين؟
منذ وصول بايدن الى رئاسة أمريكا، بدأت المواجهة الكبرى مع الصين، والتي تجلّت بعدّة خطوات.
أوّلا، وفي تقرير نشرته صحيفة “ازفيستيا” الرّوسيّة ، كتبت الكاتبة كسينيا لوجينوفا أنّ انسحاب أمريكا من أفغانستان لم يكن فشلا أو ضعفا من جهتها كما يرى البعض ، إنّما كان لهدف أساسي وتكتيكي ، وهو ترك دولة سنيّة متطرّفة بقيادة طالبان مع أسلحة بمليارات الدّولارات على طريق الحرير بين الصين وإيران، اللّتين تشكّلان أعمدة الحلف المقابل لأمريكا، إضافة الى ارسال مساعدات ماليّة سنويّة لتدريب قوات الأمن الأفغانية ؛و بهذا تكون أفغانستان قنبلة موقوتة تشعلها الولايات المتّحدة، ساعة تشاء وبكبسة زرّ، لزعزعة استقرار آسيا الوسطى، المنطقة التي تقع في مثلث المقاومة المعادية للغرب( أي بين روسيا، والصين وإيران) .
ثانيا، عملت أمريكا على إشعال الصراع الروسي – الأوكراني، وبالتالي كبح جماح ، وضرب أقرب حليف أوروبي للصين – (روسيا )، واستنزاف قوتها ، وذلك بهدف إضعافها كحليف للصين.
ثالثا، سعت أمريكا لارساء مشروع “الممر الاقتصادي” ،الذي جاءت به مع الهند والسعودية والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي -على هامش قمة العشرين في نيودلهي- كمنافس لطريق الحرير الصيني. ويعتبر هذا المشروع الخطوة الأهم في إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لمواجهة النفوذ المتصاعد للصين في المنطقة ومشروعها “الحزام والطّريق” الذي ينظر اليه الغرب على أنه مشروع جيوسياسي بغطاء اقتصادي.
أمريكا تستنزف قوة روسيا في الحرب الروسية- الاوكرانية، وتعمل على إضعاف الصين من خلال ارساء مشروع منافس يقضي على مشروع “الحزام والطريق ” ذات البعد الاستراتيجي، كما وتفرض العقوبات الاقتصادية القصوى على إيران. فهل ستبقى هذه الدول تحت رحمة أمريكا ، أم أنّها سترمي شباكها في أماكن أخرى؟
من هنا ، كان لا بد من نقل الحرب من روسيا واوكرانيا الى الشرق الاوسط، هذا الشرق الاوسط الذي اعتاد ان يكون التربة الصالحة للأزمات والحروب والمجازر، والاقتتال والدمار والدماء…
ان الحرب التي تقع اليوم على أرض غزة لها اسباب عديدة ظاهرة ومعروفة ، ومحقّة ومنطقية، حتى ان الامين العام في الأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش”، أكّد أن “هجمات حماس لم تحدث من فراغ “، بل إنها نتيجة حتميّة لممارسات “ناتانياهو” التعسّفية و المتطرّفة التي بالغت في ظلم واضطهاد، وتنكيل وتعذيب، وحصار الفلسطينيين الأبرياء ، اضافة الى مسيرة التطبيع الآخذه في التزايد بين الدول العربية واسرائيل، وغياب أو تغييب ” القضية الفلسطينية” عن الأذهان العربيّة .
الا ان نظرة جيوستراتيجية أعمق وأكثر شمولية للمشهدية السياسيّة لهذه الحرب، تجعلنا نرى بوضوح التقاطعات والتدخلات الدولية ، فطوفان الأقصى قد حرّك أمريكا قبل أن يحرك اسرائيل. لذلك، لا بد أن يعلم كل من يريد التدخّل في هذه الحرب الى جانب فلسطين، أنّ اللعب لن يكون مع اسرائيل؛ بل مع أمريكا.
اضافة الى ذلك، فإننا نشهد تدخل الدول جميعها في هذا الصراع. فلأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية عام 1945 – ووفقًا لتقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” في 28 أكتوبر 2023- نرى هذا الوجود العسكري المكثف في البحر الأبيض والبحر الأحمر ( 50 سفينة حربية من 11 دولة حتّى الآن من حاملات طائرات ، وبوارج ، وفرقاطات ، ومدمّرات ، وغواصات) ، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على التوتّرات المتزايدة في المنطقة، وعلى تعقيد الصراع وإطالته.
الصين تريد استعادة تايوان ،وهي تسعى بكل ما أوتيت من قوّة لابراز دورها كلاعب دولي واقليمي بارز، الأمر الذي تجلى مؤخّرا من خلال رعايتها الاتفاق السعودي – الايراني.
روسيا تريد ضم اوكرانيا، وأوروبا تريد الغاز الطبيعي، فهل تسمح روسيا لاسرائيل بأن تضخ الغاز لاوروبا من حقل كاريش؟
مصر تريد افشال مشروع الممر الاقتصادي الذي تراه ضربة قاصمة لقناة السويس، ومؤامرة على دورها الريادي في التجارة العالمية.
وايران، وإنْ عقدت مع الصين اتّفاقا لمدة 25 سنة يساعدها على تخطّي العقوبات الاقتصادية والخروج من عزلتها الدولية ، الا انها ما زالت تريد أن تتخلّص من العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، دون أي قيد أو شرط ، كما تريد أن يتمّ الاعتراف بأن برنامجها النّووي هو لأغراض سلمية.
ومقابل كل ذلك، أمريكا تريد أن تبقي على اسرائيل ، كجزء لا يتجزأ منها ، أي كولاية 51، وكنفوذ غربي في الشرق الأوسط، وقد أكّد الرئيس بايدن ذلك مرارا قائلا: ” إنّ الولايات المتحدة ودولة إسرائيل شريكان لا ينفصلان!”.
فهل تحاول الصين وإيران وروسيا تحقيق مطالبها من الولايات المتحدة من خلال الوقوف مع حماس؟ وهل تكون غزّة ساحة الصراع الجديدة للمواجهة الغربية مع روسيا والصين؟
وإذا انتهت الحرب العالميّة الثانية باستخدام الولايات المتّحدة للأسلحة النوويّة، فكيف ستنتهي المواجهة مع الصين؟ وهل تكون غزّة اليوم مفتاحا لحرب عالمية ثالثة؟
الكاتبة: الدكتورة إيمان درنيقة الكمالي
استاذة جامعية وباحثة سياسية