"بلوتو": مستقبل من الكراهية بعد الحرب الأميركية الإيرانية
2023-11-01 14:09:57
عندما عبرت "أليس"، حفرة الأرنب، نحو أرض العجائب، في رواية لويس كارول الشهيرة، كانت تفتح باباً من عالم الركود اليومي نحو عالم الفوضى غير المتناهية. وبالطريقة نفسها، يعبر من يشاهد سلسلة "بلوتو" التي بدأت "نتفليكس" بعرضها قبل أيام، عالمه الرتيب نحو حياة مستقبلية تبدو براقة للوهلةالأولى، كونها متقدمة تكنولوجياً وآمنة بيئياً، قبل أن تتكشف حقيقتها المظلمة في عالم حصلت فيه حرب مروعة بين إيران والولايات المتحدة.
وإن كانت الفوضى التي تختبرها "أليس"، اختباراً للحياة نفسها بأبعادها وتقلباتها وشخصياتها، فإن مشاهدة "بلوتو" تبدو وكأنها غوص في النفس البشرية وما يجعل البشر بشراً، تحديداً امتلاكهم للعواطف ووعيهم بتلك العواطف وعدم قدرتهم على التحكم بها، خصوصاً العواطف السلبية كالحزن والإحساس بالفاجعة وقبل كل شيء، الكراهية التي تبدو المحرك الأساسي للأحداث من جهة، وللكوارث التي يعيشها الإنسان من جهة ثانية.والسلسلة المقتبسة عن واحدة من أشهر سلاسل المانغا اليابانية، صدرت تحت العنوان نفسه بين العامين 2003 و2009، وتبدو مذهلة من ناحية تقنية، ويتم تقديمها في ثماني حلقات، مدة كل منها ساعة كاملة تقريباً، مع اهتمام فائق بالتفاصيل والخلفية والموسيقى لدرجة يمكن معها فقدان الإحساس بمتابعة "أنمي" أو رسوم متحركة، في وقت لا يتم فيه إعادة تدوير الرسوم نفسها على غرار كثير من سلاسل الأنمي الأخرى التي تبدو رخيصة بالمقارنة.والأحداث تدور في المستقبل، بعد 37 عاماً على انتهاء الحرب بين الولايات المتحدة وإيران، اللتين تحملان أسماء رمزية يمكن من خلالها رسم مقاربات مع الواقع الحالي. فـ"المملكة الفارسية" اتهمتها "ولايات ثيراكيا المتحدة" بتصنيع روبوتات الدمار الشامل، وأجرب الأمم المتحدة تحقيقاً دام سنوات في البرنامج الروبوتي السري للفُرس الذين يعيشون تحت حكم ديكتاتوري مماثل للحكم الثيوقراطي الحالي في البلاد، على غرار التحقيق المستمر في البرنامج النووي الإيراني. وبالنظر إلى فترة إنتاج المانغا، يمكن أيضاً رسم خطوط موازية للحرب في العراق، لأن التحقيق في برنامج الروبوتات المدمر لا يقود إلى نتيجة حاسمة، لكن "ولايات ثيراكيا المتحدة" تشن الحرب بجميع الأحوال ضمن تحالف دولي لنشر الديموقراطية.
هذه الخلفية العامة يتم تقديمها كذكريات، من قبل الروبوتات أبطال القصة. وهم 7 روبوتات يوصفون بالعجائب السبعة، صُنع كل منها على حدة من قبل أحد العلماء باستخدام تقنيات رائدة، وتم استدعاؤها جميعاً للحرب ضد المملكة الفارسية، وتحويلها إلى آلات قاتلة. وبعد 37 عاماً، تبدأ موجة من جرائم القتل المروعة، باستهداف تلك الروبوتات المحبوبة في مجتمعاتها المحلية، حيث يقومون جميعاً بأعمال نبيلة. فالروبوت "مون بلان" المسمى على اسم أعلى قمة جبل في فرنسا، خصص وقته بالكامل لحماية الطبيعة الخلابة في جبال الألب. والروبوت "أبسيلون" الذي رفض التجنيد الإجباري ووُصف بالجبان تبنّى عشرات الأطفال اليتامى خلال الحرب في مكان منعزل في أستراليا. والروبوت "غيتشيت" هو محقق ألماني في الشرطة الأوروبية يُكلف بالقضية ليكتشف أنه أحد أهداف القاتل المتسلسل.وفي كل حلقة، يتم التركيز على واحد من الروبوتات السبعة، لعرض تاريخه ورؤيته للحرب وحياته الحالية وأفكاره وأحلامه ومشاعره، وكلها خصائص بات الذكاء الاصطناعي لهذه الروبوتات قادراً على تكوينها في تطور ذاتي، يخيف أصحابه، خصوصاً ممن باتت تلاحقهم الكوابيس والعواطف التي لا يمكن تفسيرها، كالكراهية والحقد، بشكل يتعارض أصلاً مع برمجتهم التي تنص بصرامة على أنه لا يمكن للروبوت إيذاء البشر. فيما شهد التاريخ البشري كله، حادثة واحدة قتَل فيها روبوت إنساناً عن سبق الإصرار من دون أن يعاني مشكلة تقنية، ما أحدث رعباً واسعاً."هل تنتهي الكراهية. منذ بت أشعر بهذا الشعور، صرت أخاف من نفسي أكثر من أي شيء آخر. أخبرني، هل تنتهي الكراهية عندكم أنت البشر؟".. هي واحدة من أكثر الجُمل المؤثرة في السلسلة كلها، عندما يصطدم غيتشيت برجل يتربص به ويريد قتله، كونه ينتمي إلى مجموعة من النازيين الجدد الذين يريدون صفاء العالم من الروبوتات وجعله بشرياً خالصاً، ويخططون لمجموعة من الأعمال الإرهابية بالاستفادة من الفوضى الحاصلة في العالم.هذه المجموعة الموجودة في ألمانيا، وغيرها من الشخصيات، تعطي كلها سياقاً سياسياً وتعليقاً اجتماعياً وفلسفياً على الحياة المعاصرة، برسم خطوط موازية بين العنصرية ضد الروبوتات، والعنصرية ضد اللاجئين وأصحاب البشرة الملونة والنساء ومجتمع الميم وغيرها. والحرب التي أدت إلى خلق المشاعر لدى الروبوتات، بسبب الفظائع التي ارتكبوها بقتلهم آلاف الروبوتات من بني جنسهم، تفتح حوارات عن الحروب البشرية، وكيف يقتل البشر بشراً آخرين لمجرد إحساسهم بالتفوق الإثني والعرقي عليهم، أو بسبب الكراهية الدينية أو لأسباب تاريخية وغيرها.والخلاصة التي ترسمها السلسلة ككل تقول أن "الكراهية لا تقود إلى شيء". سوى الندم ربما. الروبوت "نورث 2" الذي شارك في الحرب، طوّر مشاعر بعيدة من الكراهية وأقرب إلى الندم العميق والاكتئاب. ومثل أي جندي بشري اليوم، شعر بأن الجميع يراه بعد انتهاء الحرب بأنه مجرد آلة للقتل والعنف، لا أكثر، رغم أن وجوده يتخطى ذلك المعنى الوضيع. ومن الكآبة، أراد تعلم الموسيقى وعزف البيانو التقليدي، رغم أن الموسيقى نفسها باتت تُصنع بشكل رقمي من دون آلات. لكن حلمه بالعزف يتبخر عندما يتعرض للقتل بدوره.الأسئلة التي تطرحها السلسلة حاضرة منذ وقت طويل في الفلسفة والأدب وثقافة البوب المعاصرة، خصوصاً في وقت الأزمات، مثل ما يعيشه الشرق الأوسط مجدداً هذه الأيام مع تجدد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر منذ عقود. والأمر نفسه يمكن ملاحظته في حالة الحرب السورية وحالات نزاعات أخرى حول الكوكب وعبر التاريخ بين شعوب متصارعة. وعلى المستوى الاجتماعي الأصغر في حالات الجرائم.وفيما يتصارع البشر على تقديم السرديات التي تبرر العنف، فإن الروبوتات بكونها تمتلك وعياً متقدماً ومجرداً، تنظر إلى الجميع كمجرمين مثيرين للشفقة، مهما كان الحق الذي ينادون به، ومهما كان الباطل الذي يريدون محاربته. وغالبية الروبوتات لا يمكنها فهم أسباب الكراهية، حتى عندما تشعر بها شخصياً. كما أن الارتباك الذي تشعر به عند ملامسة مشاعر، مثل الحزن والفقدان إثر جريمة قتل مثلاً، يتعاظم في اللحظة التي يلامس فيها الحزن الكراهية والرغبة في الانتقام، ليس لأن تلك المشاعر مؤذية للآخرين بل لكونها تؤذي صاحبها أكثر من أي شخص آخر، إلى حد الرغبة في الموت والانتحار وإيذاء الذات.كل شخص يملك صوتاً وقراراً، والكل يختار الحروب بطريقة أو بأخرى، سواء شارك فيها أو لم يشارك. وبهذا، يبدو العنف سلوكاً متأصلاً في النفس البشرية بشكل يتعارض مع مفاهيم أوسع تتم مساءلتها، مثل الحقوق المدنية وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان والقوانين الدولية، خصوصاً عندما تتعارض تلك المفاهيم مع الكراهية الشخصية والذاتية. لأن كل من يشارك في حرب ما، أو كل من ينضم إلى مجموعة إرهابية ما، يمتلك في داخله بذرة من الكراهية ضد الطرف الآخر الذي يقنع نفسه بأنه عدوه الوجودي. المشكلة في السلوك نفسه وليس في الغاية التي تبرره.وبهذا تبدو السلسلة قاتمة للغاية في واقعيتها، وكأن البشرية في حالة ميؤوس منها، مهما كان التطور التقني الذي تصل إليه. هذه العدمية تقول في النهاية أن الخطر الأول على الكوكب وعلى مفهوم الحياة نفسها، ليس الحضارة البشرية بحد ذاتها، بل الوجود البشري وطرق عيشه: الإنسان هو عدو نفسه، ومشكلة البشر هي البشر أنفسهم.
وكالات