حظيت قضية ريحانة جبّاري، وهي طالبة إيرانية ولدت في العام 1987 وأُعدمت في العام 2014، بتغطية واسعة في الصحافة الدولية وأثارت غضباً عالمياً. كانت ريحانة في التاسعة عشرة من عمرها عندما دافعت عن نفسها ضد رجل حاول اغتصابها، تبيّن أنه عميل سابق في المخابرات الإيرانية، وطعنته حتى الموت. يوثق الفيلم التسجيلي "سبعة شتاءات في طهران" للمخرجة الألمانية شتيفي نيدرتسول(*)، مصير ريحانة جباري، في قطعة فنية ملحّة ومفجعة يصاحبها صوت الممثلة الإيرانية المغضوب عليها زار أمير إبراهيمي. يعرض رسائلها من داخل السجن (وهنا يأتي صوت إبراهيمي) بالإضافة إلى لقطات فيديو عهدت بها عائلتها إلى المخرجة. تحكي السجينة المغدورة عن الضرب والتهديدات، لكنها تحكي أيضاً عن التضامن الذي أبدته زميلاتها السجينات، اللواتي أجبرتهن بعض عائلاتهن على ممارسة الدعارة. لكن الدراما الحقيقية تبدأ بعد النطق بالحكم بالإعدام: بما أن ريحانة محكوم عليها بموجب أحكام الشريعة الإسلامية (القصاص)، فيمكن إنقاذ حياتها من قبل عائلة الضحية، لكن هذا مشروط بتراجع ريحانة عن اتهام القتيل بمحاولة اغتصابها (وهو ما رفضت القيام به)، لينتهي بها الأمر أخيراً بالتسليم لقدرها المحتوم وأخذ نصيبها من "عدالة" هذا العالم الظالم، بعد سبع سنوات أمضتها في السجن قبل إعدامها.
تختصر قضية ريحانة حكاية شابّات ونساء إيرانيات، ربما لم ولن نسمع عنهن، ففيها تربض ملامح ثقافة اغتصاب تستبيح أجساد النساء وتنتهك خصوصياتهن، وفيها تكمن محنة نساء ابتلين بوجودهن في هذه البقعة من العالم المحكومة عدالتها بتفسيرات متشدّدة وعقائد متطرّفة، فضلاً عن قوانين أبوية تحتقر مصائر وانحيازات كل مَن تمتّ لجنس النساء بصفة. "سبعة شتاءات" شهادة قوية على المقاومة اليائسة التي أبدتها ريحانة جبّاري، وعائلتها أيضاً التي قبلت قرارها وظلّت تناضل من أجل إعادة تذكير الناس بقضيتها وحفظ ذكراها حتى يومنا هذا.
من الناحية الفنية، صُمّم الفيلم ببراعة - من اللغة المرئية إلى أسلوب التحرير- تشهد على رؤية المخرجة الإبداعية وقدرتها على التنفيذ. إنه فيلم عاطفي، لكنه ليس زاعقاً على الإطلاق. إلحاحه يأتي من موضوعه المأسوي ذاته، لكنه يسمح لنا في الوقت نفسه أن نشهد دفء وصمود الطبيعة البشرية. لا يُظهر فقط شجاعة الأفراد في مواجهة انتهاكات وعنف ممنهجين، لكنه يذكّرنا أيضاً أنه حتى الموت لا يمكن أن يهزم إرادة المرء في القتال من أجل عالم أفضل.
"المدن" التقت المخرجة شتيفي نيدرتسول للحديث عن فيلمها.
- فيلمك قائم في الأساس على الوثائق الصوتية التي سجّلتها ريحانة في السجن. كيف أمكن تهريب كل هذه التسجيلات والنصوص؟
بالنسبة للجزء الأكبر، كان مسموحاً لريحانة إجراء مكالمات هاتفية لمدة دقيقتين يومياً. في عامها الأخير على وجه الخصوص، بدأت والدتها في تسجيل محادثاتها. وهكذا أمكن تهريب رسائلها ومذكّراتها خارج السجن قبل أن تصل إليها أيدي الإدارة.
- ألم يكن الهاتف مراقباً؟
بلى، بالطبع. في بعض الأحيان لم ينجح الأمر، وجرى استغلال المحادثات ضدها.
- هناك أيضاً صور من داخل السجن، من سجن إيفين على وجه الخصوص، موجودة في الفيلم.
إنه لأمر جنوني حين أفكّر في مخاطرة أولئك الذين ساعدوا واشتركوا بتهريب الهواتف المحمولة إلى الداخل والصور إلى الخارج. لم يكن بإمكاني أبداً أن أصنع هذا الفيلم من دون وجود العديد من الإيرانيين الشجعان والإيرانيات الشجاعات في الداخل، سواء في إيران أو في السجن.
- كيف وجدت القصة طريقها إليك بعد سنوات قليلة؟
حدث الأمر بالصدفة. صحيح أن قضية ريحانة أثارت غضب العالم حين مقتلها في 2014، وكان لها صداها الكبير هنا في ألمانيا، لكني صانعة أفلام روائية بالاساس ولم أفكّر مطلقاً في أنني سأصنع فيلماً عنها. ولكن بعد ذلك، في 2016، تعرّفت على بعض أفراد عائلة ريحانة في تركيا، حيث كان صديقي الإيراني يعيش في ذلك الوقت. أصبحنا أصدقاء، وفي مرحلة ما سألوني عما إذا كنت أرغب في إنجاز فيلم استناداً إلى التسجيلات الصوتية والمرئية من فترة ريحانة في السجن. في إيران لم يجدوا أي شخص يجرؤ على فعل ذلك، أما بالنسبة إليّ كألمانية فكان الأمر أقل خطورة بكثير. كانت قفزة كبيرة، أن تحاول فعل شيء لا يمكن إثبات أو معرفة وجوده أو نتيجته. ثم في 2017 قابلت شعلة باكرافان، والدة ريحانة، عندما فرّت إلى تركيا. في تلك اللحظة عرفت أني أريد وأحتاج أن أنجز هذا الفيلم.
- بالفعل، والدة ريحانة هي إحدى الشخصيات الرئيسة في فيلمك. كيف كان لقاؤها؟
كانت لحظة ساحرة. قبل مقابلتها للمرة الأولى، كنت شاهدت بالفعل الكثير من المواد المصوّرة لدرجة أني شعرت بأنني عشت تلك الأوقات المؤلمة معها (في انتظار معرفة ما إذا كانت العائلة الأخرى ستعفو عن ابنتها أم لا). على الرغم من أننا لم نلتق قط، شعرت بأنني قريبة جداً من شعلة. كانت منفتحة تماماً معي: على الفور، أخبرتني كثيراً عن ابنتها، وعرفت أني أريد أن أصنع هذا الفيلم. ثم انتقلت مع ابنتيها إلى ألمانيا، وكانت صدفة جميلة وساعدت العملية كثيراً.
- صحيح. في الفيلم نرى شعلة وابنتيها الأخريين وقد غادرن إيران وأقمن في برلين...
بعد إعدام ابنتها واصلت شعلة الكفاح ضد عقوبة الإعدام. جنباً إلى جنب أمّهات أخريات، تعرّض بعض أبنائهن وبناتهن لإطلاق النار في مظاهرات خلال "الحركة الخضراء" العام 2009، وقامت بحملة ضد الاعتقالات التعسفية. نتيجة لنشاطها، جرى استجوابها مراراً وتكراراً، وتعرّضت ابنتاها للتهديد. إلى أن قُبض على صديقة وزميلة شعلة، فأصبح من الواضح أنها ستضطر إلى مغادرة إيران.
- هل ما زال والد ريحانة، فريدون جبّاري، في إيران؟ في الفيلم، هو الوحيد الذي تقابلينه عبر مكالمة فيديو.
نعم، رفضت السلطات الإيرانية منحه جواز سفر ساري المفعول ولا يبدو أن هذا سيتغيّر قريباً. لكنه قرر التحدث عن ابنته. الآخرون جميعاً، بمن فيهم رفيقات ريحانة من سجينات سابقات، لم يعدن في إيران. لو أنّ إحداهن داخل إيران فلا أتخيل أصلاً أنها ستكون قادرة على محادثتي في موضوع كهذا. "سبعة شتاءات" فيلم ضد عقوبة الإعدام. عقوبة الإعدام تستند إلى الشريعة الإسلامية، أي القرآن. وهذا يعني، بالنسبة للسلطات، أن الفيلم موجّه ضد كلمة الله، إذا جاز التعبير.
- تبقين قريبة جداً من عائلة ريحانة طوال الوقت. هل حاولتِ مقابلة عائلة مرتضى سربندي، المغتصِب القتيل؟
لا، لم أتواصل معهم. لكن أودّ توضيح نقطة: هذا ليس عملاً صحافياً. من الواضح أني أتخذ وجهة نظر معيّنة، الخاصة بأسرة ريحانة. الفيلم، أي فيلم، قرار. وبالتالي لا يستطيع الفيلم أن يفعل كل شيء.
(أرادت المخرجة تظهير إعادة إنتاج العنف)- "سبعة شتاءات" أيضاً فيلم عن نظام العدالة الإيراني، حول مفهوم القصاص، الذي ينيط بعائلة القتيل تقرير مصير ريحانة. واللافت في فيلمك أنّ المرء يتفهّم أيضاً موقف جلال سربندي، الابن الأكبر للقتيل، بالرغم من قراره النهائي إيصال ريحانة إلى مشنقة الإعدام.
كان هذا أحد الجوانب التي أثارت اهتمامي بشعلة، والدة ريحانة. الطريقة التي حاولت بها التواصل مع جلال ووالدته وإظهار التفاهم أثّرت فيّ تماماً. بنظري، جلال، هو الآخر، ضحية للنظام الأبوي في إيران، وجد نفسه مضطراً لتحمُّل أعباء دور كبير العائلة بعد وفاة والده. لكن بالطبع ظلّت شعلة غير متيقّنة من مشاعرها، لأنه في النهاية ما زال هو مَن قرر عدم السماح لابنتها بالعيش.
- حتى النهاية، كانت هناك فرصة للعفو عن ريحانة من جانب عائلة سربندي. إلا أنه، في النهاية، لم يكن جلال مسؤولاً فقط عن إعدامها، بل اضطر إلى المشاركة بنفسه في تنفيذ عملية الإعدام.
أجده أمراً خبيثاً وغادراً أن تمرّر الدولة القرارَ المتعلّق بحياة فرد ما إلى أحد مواطنيها. هذا يثير أسئلة ضخمة: ما الحياة، ما المغفرة، ما الانتقام؟ أيضاً، هناك تأرجُح جلال الذي، من جهة، يبدي تفهُّماً ويريد أن يعفو، لكنه، من جهة أخرى، يريد أن ينتقم لوالده ويُبيّض صفحته. على المرء أن يأخذ في الاعتبار أن هذه الأسرة الأخرى قد فقدت أيضاً إنساناً عزيزاً، وعليهم أيضاً أن يتعاملوا مع آلامهم.
- أُعدمت ريحانة بموجب العدالة الجزائية لـ"القصاص"، وهو مبدأ شرعي ما زال جزءاً من قانون العقوبات الإيراني، والذي قد تختار أسرة الضحية بموجبه العفو أو الانتقام "عينياً" بعقوبة مساوية للجريمة. هل كنت تعلمين عنها شيئاً قبل صنع هذا الفيلم؟
نعم، كنت على علم به من شريكي الإيراني، لكن حالة ريحانة كانت خاصة. عُقدت جلسات استماع عديدة، وتمتّ متابعتها من الخارج واستمرت أكثر من سبع سنوات. لقد استمعت إلى شهادات العديد من النساء اللواتي حُكم عليهن بالإعدام في غضون خمس دقائق. خذ، مثلاً، سميرة التي تظهر في الفيلم. أُلغي الحكم الصادر بحقها في ما بعد، لكن المحكمة لم تستغرق أكثر من نصف ساعة للحكم عليها هي وشقيقتها البالغة من العمر 11 عاماً ووالدتهما بالإعدام. لهذا السبب كان من المهم بالنسبة إلي أن أظهر الطبيعة المنهجية لهذا العنف بالإضافة إلى الطبيعة المنهجية لاضطهاد المرأة. بالطبع، الرجال أيضاً مضطهدون بشدة في إيران، لكنك إذا قرأت القانون، فستفهم ما يعنيه الاضطهاد المنهجي للمرأة. هذا هو السبب في أن النساء في طليعة الحركة الاحتجاجية الإيرانية.
- يتضح أيضاً عوار النظام القانوني الإيراني عندما يحاضر القاضي المتحيّز، على مسمع ريحانة، في أنه كان ينبغي عليها أن تترك نفسها تتعرَّض للاغتصاب ثم تتقدّم بشكوى.
في الشريعة الإسلامية، هناك عقوبات الحدود، التي يخضع لها الجنس خارج نطاق الزواج أيضاً. عوقبت ريحانة بـ30 جَلدَة قبل محاكمتها لأنها "أقامت علاقة محرّمة من دون زنا". لو حدث هذا الأخير، بالتراضي أم بغيره، لكانت 100 جلدة.
- بعد الحكم على ريحانة بالإعدام، استغرق الأمر خمس سنوات أخرى قبل أن تُعدم فعلياً. هل هذه ممارسة شائعة؟
ليس من غير المألوف في هذا النظام الفاسد للغاية. لكن على حدّ علمي فقد دفعت عائلة ريحانة رشى لسنوات لتأخير قرار تنفيذ الحكم.
- ومع ذلك، كان احتجاج الأمّ السبب الرئيسي في إثارة الضجة والضغط على النظام. يتساءل المرء مرة أخرى: إلى أي مدى تخيف النساء الغاضبات النظام؟
هناك مَن يخشى أن يؤدي استنفار الإعلام الغربي في التنديد بحكم إعدام إلى تنفيذ الحكم بسرعة أكبر، وهو ما يروّج له النظام بالطبع. من ناحية أخرى، أدّت الانتقادات الغربية في قضية ريحانة إلى وضع النظام تحت ضغط هائل. في النهاية، أُعدمت الفتاة على أي حال. لذلك تختلف الآراء.
- هل ما زلت على اتصال بعائلة ريحانة؟
نعم، نحن قريبون جداً. عملت مع والدتها في تأليف كتاب بعنوان "كيف تصبحين فراشة"، والذي يتناول قضية ريحانة. نُشر الكتاب مطلع العام الجاري، قبل عرض الفيلم في "برليناله".
- استغرق صنع هذا الفيلم خمس سنوات. لماذا كل هذا الوقت؟
استغرق الأمر وقتاً طويلاً بسبب إجراءات تمويل الإنتاج المشترك الفرنسي الألماني، والجزء البحثي، والترجمة من الفارسية... والكثير من المواد الصوتية والمرئية. لم تُصوَّر اللقطات في الأساس لاستخدامها في فيلم ما، بل لأن شعلة كانت لديها فكرة أن تُظهر لابنتها ما فعلوه جميعاً من أجل إطلاق سراحها عندما تخرج من السجن، كما تمّنت دوماً. لذا كانت لدينا مليون قطعة صغيرة، واستغرق فهم ما لدي وكيف يمكنني إنتاج فيلم منها، بعض الوقت.
- ما تحديات العمل مع أشخاص داخل إيران، مثل أولئك المذكورين في تترات الفيلم؟
كان التحدي الأكبر الحفاظ على سلامة الجميع. لذلك لم نتحدث أبداً عن الفيلم، وحاولنا إبقاءه سرياً قدر الإمكان، ولم يكن من الممكن الوصول إلى جميع المستندات إلا بكلمات مرور. حتى في تترات الفيلم استخدمنا أسماء مستعارة أو شكرنا "مجهولين" صوَّروا سراً في إيران لقطات خصيصاً من أجل الفيلم.
- بدأتِ هذا الفيلم قبل فترة طويلة من الاحتجاجات التي أعقبت مقتل مهسا أميني في خريف 2022. إلى الآن يستمر إعدام المتظاهرين في إيران. ما التأثير الذي تأملين أن يكون لفيلمك؟
قررت العمل على هذا أولاً لأني شعرت أنه مهم. الآن لدي شعور أنه يمكن أن يغيّر شيئاً ما. آمل بعد مشاهدة هذا الفيلم، أن يفهم الناس أن وراء الأرقام مصائر فردية، بشر. وراء كل متظاهر تم إعدامه، أمّ مثل شعلة باكرافان، وأبّ مثل فريدون جبّاري، وهناك أشقاء. أريد إظهار إعادة إنتاج العنف. الأمر يتعلّق أيضاً بحقوق المرأة، لأن إعدام ريحانة ليس حالة خاصة. لقد أدركتْ ذلك بنفسها، ولهذا بدأت في كتابة نصوص ملهمة ومدهشة من داخل السجن. آمل أن يفهم الناس أن هذا الاضطهاد نظام كامل وأنه لا يتعلّق فقط بالحجاب الإجباري. إنه أكثر من ذلك بكثير. إنه يتعمق أكثر في العديد من الطبقات. من خلال الاحتجاجات، أصبح الناس في جميع أنحاء العالم على دراية بحالة حقوق المرأة في إيران. لكن هذا العنف المؤسسي لم يبدأ الآن، ولم يبدأ بقضية ريحانة، إنه مستمر منذ سنوات.
(*) شتيفي نيدرتسول (1981، نورمبرغ): كاتبة سيناريو ومخرجة ألمانية مقيمة في كروزبرغ. عُرض فيلم تخرّجها، "ليا"، في قسم "منظور السينما الألمانية" ضمن فعاليات مهرجان برلين السينمائي عام 2007. "سبعة شتاءات في طهران" هو أول أفلامها الطويلة، وعُرض بدوره في القسم ذاته في المهرجان نفسه العام 2023، حيث فاز بجائزة أفضل فيلم. شاركت في تأليف كتاب "كيف تصبحين فراشة" (2023) مع شعلة باكرافان، والدة ريحانة.