حين نسأل العقل العالمي "الإنترنت" عن مدرسة فرانكفورت الفكرية والفلسفية يعطينا، وبلمحة خاطفة، برقية، صورة بانورامية عنها. فهي واحدة من أهم المدارس الفلسفية والاجتماعية في القرن العشرين. رافقت تأسيس "معهد البحث الاجتماعي" في عهد جمهورية فايمار، الذي أصبح بعد العام 1930 مركزًا للفكر اليساري، مرورًا بانتقال أعضاء المدرسة إلى المنفى (بداية إلى جنيف ولاحقًا إلى نيويورك) بعد وصول النازيين إلى السلطة. الأعلام الأربعة الأساسيين أثناء مرحلتها الذهبية (بين أواخر العشرينيات وأواخر الثلاثينيات من القرن المنصرم) كانوا، على تقاربهم، ذوي اتجاهات متباعدة ومتكاملة، هوركهايمر كان فيلسوفاً، وماركيوز أقرب إلى علم الاجتماع وعلم الإيديولوجيا مع إطلالة أكيدة على علم النفس. فيما كان إريك فروم عالم نفس ورث الفرويدية في توجه ماركسي واضح. وكان جلّ عمل ثيودور أدورنو منصباً على نظرية الفن وعلم الجمال، وهو الذي كانت أشغاله النظرية حول الموسيقى الحديثة (أعمال شونبرغ وآلبن برغ) من أهم الأعمال التي تناولت هذه الموسيقى. لقد شكل هذا كله الأسس التي بُني عليها الفكر الجماعي والتعددي لتلك المدرسة، التي قد يصح اعتبارها أهم ظاهرة فكرية جماعية ظهرت في القرن العشرين، في اشتغالها أصلاً على مفهوم العقل غير الميكانيكي، وهو ما يتضح خصوصاً في كتاب أصدره، والحرب العالمية الثانية لم تنته بعد، فيلسوفا المدرسة الأساسيان هوركهايمر، وأدورنو، على شكل مقتطفات فلسفية بعنوان "جدلية العقل".
وللفن مساحة ليست بالهينة في مؤلفات أبرز فلاسفة مدرسة فرانكفورت، مثل ثيودور أدورنو وهربرت ماركيوز ووالتر بنيامين الذين رسموا ملمحاً عاماً للدور النقدي الذي يجب أن يضطلع به العمل الفني في سبيل تحرير الفرد من كل أشكال السيطرة والاستبداد التي تقيد وجوده الاجتماعي. كان الفن لدى رواد هذه المدرسة نافذة تمكن الفرد من أن يطل على البعد الآخر لتجربته الإنسانية، المتمثل في الخيال الذي يمكنه من رسم عالم مقابل للعالم القائم، عالم يعبّر عن المعنى الحقيقي لإنسانيته الذي لا يكون إلا بتحقيق الحرية والعدالة والكرامة. وبعد صعود النازية في ألمانيا سنة 1933 انتقل المعهد في البداية إلى جنيف ثم انتقل في النهاية إلى نيويورك، وعندما التأم شمل الباحثين هناك في سنة 1934 أطلقوا على معهدهم اسم مدرسة فرانكفورت. وقد دأب مؤرخو الفلسفة الألمانية على تقسيم مراحل تطور النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت إلى ثلاث مراحل أساسية: المرحلة الأولى: شكلت النواة التأسيسية للمدرسة، ويمثلها الرعيل الأول من فلاسفتها، وعلى رأسهم ماكس هوكهايمر وتيودور أدورنو-Theodor Adorno 1903-1969” وهربرت ماركيوز. المرحلة الثانية: هي التي يمثلها الجيل الثاني للمدرسة، وعلى رأسهم يورغن هابرماس- Jürgen Habermas،1929 وكارل أوتوآبل. المرحلة الثالثة: يمثلها اليوم أكسل هونيث- Axel Honnet 1949 وهو المدير الحالي لمعهد الدراسات الاجتماعية بفرانكفورت. والنظرية النقدية هي تعبير جاد عن تلك المحاولة التي عبرت عنها أعمال هؤلاء الفلاسفة والمفكرين بدءا بأعمال هوركهايمر ووصولا إلى أعمال أكسل هونيث، في رسم ملامح فلسفة اجتماعية نقدية تأخذ على عاتقها نقد التداعيات الثقافية والفلسفية التي انتهى إليها عصر التنوير، من خلال التوسل ببعض مقومات الثرات الفلسفي الألماني خاصة منه الماركسي وأدوات التحليل النفسي ونتائج بحوث العلوم الإنسانية.
عبّرت أعمالهم عن هاجس وحيد يكمن في الاهتمام أساساً بالفرد المغترب عن ذاته ووجوده في ظل المجتمعات الصناعية المعاصرة، بوصفها مجتمعات مسيطرة ومهيمنة. إخضاع الإنسان، ليس من طريق العنف والقوة فحسب، بل بشكل أكبر عن طريق وسائل الدعاية والإشهار والإعلام التي تسعى إلى ترويضه واختزاله في البعد الاستهلاكي المحض، ليصير الإنسان، كما عبر عن ذلك هربرت ماركيوز، "إنسان ذو بعد واحد". إنسان ذو بعد استهلاكي يصير معنى حياته وقيمة وجوده متوقفين على امتلاك الأشياء المادية الاستهلاكية. ارتبط الفن لدى مدرسة فرانكفورت بهذا النقد الجذري للعقل الأداتي، كونه سيعني عندهم، ليس وصفاً لواقع قائم ونقد له فحسب، بل هو إمكانية تتيح للإنسان التخلّص من كل أشكال السيطرة والاستبداد التي تحكمه في ظل المجتمعات المعاصرة. ذلك أن الفن في نظرهم يمثل ذلك الفكر المغاير نوعياً عما هو موجود في الواقع، وأفق تحقيق عالم إنساني أفضل تزول فيه تناقضات الواقع القائم. الفن يمثل بعداً مغايراً نوعياً لما هو قائم وسائد في المجتمعات الحالية وللسيطرة السائدة فيها، ولعقلانيتها الأداتية، ولهذا يمكن أن يقوم الفن بدور نقدي، لما يتضمنه الفن من صور خيالية مغايرة لمقتضيات وآليات العقلانية الأداتية.
العمل الفني يمكن أن يقوم بدور إيجابي ويسهم في تحقيق حرية الفرد وجعله سيد قراراته واختياراته. الفن هو الذي يمكن أن ينقل الفرد إلى نظام من الجمال والحرية يستعيد به وجوده فتتحقق له غايته ولا يكون شيئاً قابلاً للاستعمال والاستخدام في يد العقل الأداتي. غير أن الفن، من منظور مدرسة فرانكفورت، لن يستطيع القيام بوظيفته النقدية والتحررية هذه ما لم يتجاوز ما هو قائم ويتمكن من تحقيق استقلاله الذاتي، بشكل يجعله مستقلاً عن الواقع القائم وعن مؤسساته، وبعيداً من كل التوظيفات الإيديولوجية التي تجعله مشاركاً في عملية السيطرة والهيمنة. مثلما أن الفن لن يستطيع القيام بذلك، إن انحصرت وظيفته في الوصف والتعبير، وصف الوضع القائم والتعبير عنه، بل إن وظيفته تكمن أساساً في الاحتجاج على ما هو سائد وما هو كائن، وفي انتقاد كل المؤسسات القمعية التي تحاول قمع الإنسان والسيطرة على كيانه ووجوده. لكن هذا الدور النقدي والتحرري للفن لم يعد ممكناً في ظل المجتمعات الصناعية المعاصرة، وذلك حينما تحول إلى أداة للدعاية التجارية والاقتصادية والسياسية من قبل أجهزة ومؤسسات السيطرة القائمة في هذه المجتمعات. اختزل الفن في كونه وسيلة للتسلية واللهو والترويح عن النفس، كما أنه اختزل فقط في الأغاني والأفلام ذات الطابع التجاري الاستهلاكي المحض، التي يكون الهدف منها إنتاج الربح على حساب مضمون العمل الفني وقيمته.
عملت وسائل الإعلام والاتصال والدعاية، من إذاعة وتلفزيون وسينما وصحافة على تفريغ الفن من وظيفته ومضمونه الحقيقي، وحولته إلى مجرد وسيلة تسلية أو أداة تأثير في الناس والتلاعب بهم، ومجال للاستهلاك لتحقيق المتعة واللذة الذي قد يصل أحيانا إلى استثارة الغرائز الجنسية والعدوانية للأفراد قصد تشكيل إنسان نمطي وفق التوجهات التي ترسمها المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية القائمة. الصناعة الثقافية تعاملت مع الأعمال الفنية كما لو كانت شعارات سياسية، فارضة عليها أسعاراً رخيصة ولجمهور عريض. وهذا الأمر ليس إيجابياً من منظور هوكهايمر وأدورنو، والسبب أن النخبوية التي كان يتمتع بها الفن من قبل هي ما حافظ على استقلالية العمل الفني عن الوضع السائد والقائم، وعن ثقافة الجماهير المنمطة والمقولبة إيديولوجيا واجتماعيا. الفن الحقيقي والأصيل، من منظور مدرسة فرانكفورت، هو الفن الذي ينفلت من التوظيفات الإيديولوجية، ويستقل بذاته عن الواقع القائم وأجهزته ومؤسساته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليرسم للفرد البشري عالما آخر يكون أقدر على تحقيق آماله وطموحاته وحريته وسعادته.
أما نقد التكنولوجيا فيعتبر أحد الدعائم الأساسية للمدرسة، وبخاصة عند أعضائها الرواد مثل هربرت ماركيوز وأدورنو وهوركهايمر، حيث ناقش هؤلاء الفلاسفة إشكالية الهيمنة والسيطرة على الأشياء التي تنتهك نزاهتها وكيانها وتدمرها وبأنه إذا كان هناك بد من استخدام التكنولوجيا فيجب أن يكون ذلك في ظل موقف قيمي، وذلك لأن العقل الأداتي والعقلية التقنية عند فلاسفة فرانكفورت تحركهما القوة المسيطرة. إنه عقل متوافق ومنسجم مع الكلية الاستبدادية، وهناك حتمية لا يمكن نكرانها تتعلق بالتلاعب الهائل بالوعي من خلال التوجيه الأيديولوجي للإعلام والاستهلاك معاً. إن المغزى الأساسي من عبارة "الإنسان ذو البعد الواحد" أن التكنولوجيا، التي تعتبر إنجازاً بشرياً عظيماً، تم توظيفها من خلال امتصاص طاقة الرفض من أولئك الذين كانوا في ظل الأنظمة السابقة يشكلون أصواتا وقوى انشقاقية، والتكنولوجيا تفعل ذلك بفضل الكفاية والوفرة. لقد فطن فلاسفة فرانكفورت منذ البداية إلى جدلية العلاقة بين الفرد والمجتمع، وذلك بالتوافق مع كل من هيغل وماركس، ووصلوا إلى أن الوعي الذاتي للفرد يعد في نهاية الأمر وعيا اجتماعيا، لذلك فقد رفضوا فكرة نزول المجتمع إلى حالة الفرد. لقد اجتمع معظم فلاسفة فرانكفورت على أن الفرد وقع في شرك عالم يتمركز فيه رأس المال ويتداخل فيه الاقتصاد بنظام الحكم والسياسة بشكل متزايد. فمحاولة هربرت ماركيوز على سبيل المثال في كتاباته مثل (فلسفة النفي، الإنسان ذو البعد الواحد، إيروس والحضارة)، نقد النوع الجديد من الممارسات الثقافية التي طورها النظام المتقدم للاتصال الجماهيري Mass communications والتي افتقدت تماما للجانب النقدي الذي يتمتع به الفن الإيجابي وأصبحت للثقافة قيمة فاعلة تتمثل في تقنيات العرض والتسلع وأصبح الفن مستوعبا ضمن حالات الإشارة الموجهة. إن الحقيقة والواقع قد فرضا التعقيد على المدرسة الفرانكفورتية اليسارية التي تأثرت في موقفها تجاه مركزية الثقافة بكل من نيتشه، وهايدغر، وشبنغلر، حيث اجتمع هؤلاء الفلاسفة على أن الشكل الجمالي جاء ليحدد أصل الوجود التاريخي، وأن الفن والحياة مرتبطان مع بعضهما البعض، وهذا ما نجده لدى أقطاب فرانكفورت، الذين أجمعوا على أن الشكل الجمالي والثقافي ليس نشاطا فعالا لخدمة سياسات معينة، لكنه أكثر من ذلك لأنه مرتبط بالحياة نفسها. فالإحساس بالثقافة والجمال يمثل الأبعاد الوجودية المطلقة، ومن ثم فإن أزمة المظهر الكلي للتنوير هي أزمة التذوق الجمالي كما أوضحها أدورنو. يرى فلاسفة فرانكفورت أن الثقافة مثل العقل الذي قد يزيف ويقلد نفسه عندما يصل إلى النهاية، ولذلك فإن أزمة الثقافة في نهاية التاريخ هي المضي من دون نهايات، وهي مشكلة الجمال نفسهاه، عندما يكون كل شيء جميلاً، فعند هذا المستوى يحدث التناقض وهي حالة الفن عندما يصبح العالم جميلاً.