أرمينيا..زمن الإنعطاف نحو الغرب
2023-09-26 02:41:56
لم يكن كلام رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان في الأمس عن خطأ بلاده في إختيار حلفائها الإستراتيجيين، الدلالة الأولى على إنعطاف أرمينيا نحو الغرب. كما لم تكن كذلك المناورة العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة منذ أيام، ولا عزم يريفان على التصديق على معاهدة روما لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية. ولم يكن ينتظر الرجل حرب كاراباخ الثالثة ليعلن عن نيته مغادرة الإنصياع لمشيئة موسكو، والإنعطاف نحو الغرب، فالرجل حقق العام 2018 الخطوة الأبرز في توجهه السياسي نحو الغرب، حين تمكنت "الثورة المخملية" التي تزعمها من الإطاحة بدمية موسكو الرئيس الأرمني سيرج سركيسيان. ومنذ ذلك الحين وخطوات الرجل التي كان يسمح بها الوضع السياسي تتلاحق على هذه الطريق، إلى أن كان الهجوم الأذري الأخير في 19 الجاري على ناغورني كاراباخ، ليعلن باشينيان خطوته الحاسمة في إبعاد أرمينيا عن الحضن الروسي الخانق. الخطوة هذه لن تكون الأخيرة، بل حسمت نهائياً إتجاه طريق أرمينيا الطويلة والصعبة، حيث أن روسيا بوتين ليس من عادتها الإستسلام بهذه السهولة.
على الرغم من إجماع وسائل الإعلام العالمية على إنعطافة باشينيان الحاسمة نحو الغرب ومغادرته التوجه نحو روسيا، إلا أن موسكو لازالت تراهن على أن الواقع سيجعل أرمينيا تعيد النظر في خطوتها هذه. فقد نقل موقع news.ru الروسي في 25 الجاري عن البوليتولوغ الروسي ألكسي نوموف إقتناعه بأن يريفان ستعود إلى "التعاون البرغماتي" مع موسكو. رأى نوموف أن تصريحات باشينيان الصاخبة المعادية لروسيا، تهدف إلى ترسيخ موقعه في السلطة، ولا تستطيع أرمينيا أن تسمح لنفسها بقطع العلاقات مع روسيا والتحول إلى موقع متقدم للغرب في جنوب القفقاز. وفي محاولة التخفيف من وقع تصريحات باشينيان على روسيا، قال بأن مسألة كاراباخ كانت توجه سياسة أرمينيا المستقلة منذ تحررها من الإتحاد السوفياتي بسبب إنهياره، وكانت تترك تأثيرها على "القرارات غير المنطقية" المتخذة، وحالت دون إندماج أرمينيا في المجالات السياسية والإقتصادية للمنطقة. ولكن إذا تصالحت أرمينيا مع الواقع السياسي الجديد، فسيكون ذلك في نهاية الأمر "أفضل لجميع البلدان المحيطة وللجمهورية نفسها". لكن التخلي عن "الإتحاد مع موسكو" سيكون عبئاً إقتصاديا على يريفان، و"غير مقبول" سياسيا. وبطبيعة الحال، ستحاول السلطات الأرمينية تنويع علاقاتها الخارجية وجعلها أكثر تعددية. وعندما تهدأ المشاعر، فإن السياسة الأرمينية سوف تصبح أكثر واقعية مما كانت عليه قبل خسارة كاراباخ، ولن تستطيع أن تتشاجر مع روسيا.
موقع "الإزفستيا الجديدة" الروسي نشر في 20 الجاري نصاً بعنوان "كاراباخ استسلمت. هل خسرت روسيا من هذا؟". تقول الصحيفة بأنها تحاول أن تتبين كيف يؤثر إنتصار أذربيجان وتؤثر هزيمة أرمينيا على روسيا. منذ مدة ليست بعيدة كان يمكن التأكيد بأن إستسلام كاراباخ هو هزيمة لروسيا. وترى أن العلاقات الصعبة في جنوب القفقاز بدأ تاريخها مع إعلان إقليم ناغورني كاراباخ إستقلاله العام 1991. لم تحدد أرمينيا موقفها من الجمهورية المعلنة، فهي لم تعترف بإستقلالها، من جهة"، ومن جهة أخرى كانت تحاول حماية سكان الجمهورية من أذربيجان.
بعد أن تستطرد الصحيفة في الحديث عن حرص روسيا على مصلحة أرمينيا والتحالف معها، تتوقف عند الإشارات الأولى التي بدرت من باشينيان للإنعطاف نحو الغرب. تتجاوز الصحيفة حقيقة تقبل روسيا على مضض وصول باشينيان إلى السلطة على أكتاف ثورة ضد النخبة الحاكمة قي يريفان الموالية لروسيا. وتقول بأن الإشارة الأولى تمثلت في إمتناع باشينيان عن توقيع البيان الختامي لمنظمة الأمن الجماعي في تشرين الثاني/نوفومبر 2022 لرفض الأعضاء الآخرين تحديد موقف واضح من أعمال أذربيجان. وفي مطلع السنة الحالية رفض باشينيان إجراء المنظمة مناورة "أخوة 2023 الراسخة"، وذلك بحجة أن وجود القوات الروسية في أرمينيا يستفز أذربيجان.
تتوقف الصحيفة عند إنتقاد باشينيان لقوى حفظ السلام الروسية في كاراباخ، والتي يقول موقع أخر معارض بأنها وصلت الى المنطقة قبل الإعلان عنها. وتنقل عنه قوله بأنه إذا لم تكن روسيا قادرة على تنفيذ مهمة حفظ أمن سكان ناغورني كاراباخ، بوسعها الطلب من مجلس الأمن الدولي إرسال قوات إضافية متعددة الجنسيات.
وفي حزيران/يونيو2023 قال سكرتير مجلس الأمن القومي الأرمني أرمين كريكوريان بأن مشاركة أرمينيا في منظمة الأمن الجماعي يخلق مشاكل لأرمينيا. وفي تموز/يوليو رفضت أرمينيا المشاركة في مناورة للمنظمة للتدريب على إزالة آثار كارثة نووية، بحجة إنشغال خدمة الأنقاذ التابعة للداخلية الأرمنية. والآن تقوم أرمينيا بالتصديق على نظام روما الأساسي المتعلق بتاسيس الجنائية الدولية، و"هذه الخطوة لم تعجب كثيراً الخارجية الروسية، لأن الجنائية الدولية أصدرت مذكرة توقيف بحق فلاديمير بوتين".
تستنتج الصحيفة من الإشارات المتعددة المذكورة بأنه لو توقف الأمر عند موقف واحد معادٍ لروسيا، لكان يمكن القول بأنه مجرد صدفة أو "فيض مشاعر". لكن حين يتكرر الإنتقاد ورفض المشاركة بالأعمال الجماعية، يصبح ذلك نهجاً.
لكن النقطة التي جعلت الكيل الروسي يطفح من "نهج الإنتقاد" الأرمني ــــ مناورات Eagle Partner المشتركة مع الولايات المتحدة، والتي رأت وزارة الدفاع الروسية بأنه ستترتب عليها "عواقب بعيدة المدى". وفي ما يشبه تهديد حافظ الأسد لأحد "ضيوفه" اللبنانيين بتذكيره بأن "الضيف" الذي سبقه وتمت تصفيته جلس في مكانه تماما خلال زيارته "الوداعية"، ذكّرت الصحيفة بأن جورجيا أجرت مناورات مشتركة مع الولايات المتحدة "قبل أسبوع بالتمام" من إندلاع "النزاع المسلح" في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في آب/أغسطس 2008 (تم بنتيجة حرب روسيا تلك على جورجيا سلخ المنطقتين الجورجيتين المذكورتين).
حبة الكرز التي تزين الكعكة رأتها الصحيفة في زيارة زوجة باشينيان أنا أكوبيان الى مدينة كييف في 6 الجاري، للمشاركة في قمة السيدات الأوائل التي انطلقت العام 2021، وشاركت فيها زوجة الرئيس الأوكراني يلينا زيلينسكايا.
نقلت الصحيفة عن خبير المجلس الروسي للعلاقات الدوليألكسي ناوموف RIAC قوله بأن باشينيان بدأ في البحث جانباً عن حلفاء، وذلك بسبب العجز عن تسوية الصراع في كاراباخ لكنه دخل في طريق مسدود.
موقع Mediamax الأرمني نشر في 16 الشهر المنصرم نصا بعنوان "معضلة روسيا في ناغورني كاراباخ: لا يمكن المغادرة ولا البقاء". يقول الموقع بأن أذربيجان تفرض الحصار على ناغورني كاراباخ منذ أواخر السنة الماضية، بعد أن فرضت سيطرتها على معبر لاتشين الذي يصل كاراباخ بكل من أرمينيا وأذربيجان. حركة المرور في المعبر تشرف عليها قوات خفظ السلام الروسية التي نص عليها بيان اللقاء الثلاثي بين روسيا وأذربيجان وأرمينيا الذي أنهى حرب كارباخ الثانية العام 2020. وفرض أذربيجان سيطرتها على المعبر قد أطبق طوق الحصار على كاراباخ، وأطاح بمهمة قوات حفظ السلام الروسية التي عليها الإمساك بالمعبر وحفظ أمن سكان كاراباخ.
قال الموقع بأن مهمة قوات حفظ السلام الروسية تنتهي العام 2025 ، ويصبح مصيرها متوقفاً على حاجة كل من أذربيجان وأرمينيا إليها بعد توصلهما إلى إتفاقية بشأن كاراباخ. وعجز هذه القوات عن فك الحصار عن الإقليم واستعادة السيطرة على المعبر، يجعل إنهاء مهمتها هو الإحتمال الأوفر حظا، مما يفقد روسيا إحتكار دور الوسيط في عملية التفاوض.
أذربيجان حسمت أمرها بالإنعطاف نحو الغرب منذ استقلالها، وتخلص أرمينيا الراهن من هيمنة روسيا، يعني أن الغرب سيتولى دور الوسيط في مفاوضات أرمينيا وأذربيجان بشأن أزمة كارباخ، مما يعني الإطاحة باحتكار روسيا لهذا الدور وإفشال مساعيها للإحتفاظ بقوات عسكرية في كل من الجمهوريات السوفياتية السابقة.
وكالات