"لنلقي حجراً تحليلياً في ماء راكد هنا، نقتنص مفهوما عاماً من هناك، نفجر قنبلة نظرية في مكان آخر، ثم ننصب متحدثاً بليغاً (لنقل إنه إدوارد سعيد) ونتركه طليقاً في قلب العتمة، في عمق الأحشاء المنتفخة للوحش".في الاقتباس أعلاه من كتاب "ما بعد الاستشراق" يقدم الأكاديمي الإيراني الأميركي، حميد دباشي، اقتراحاته الخاصة عن كيفية تصدي التابعين لعالم اليوم، وذلك على خطى إدوارد سعيد، أو لنكون أكثر دقة، انطلاقاً من "استشراقه" وفي تجاوز له في آن. يحذرنا دباشي من خوض مواجهة سردية وجهاً لوجه مع الغرب، إذ إننا سنخسر حتماً. فمعضلة سعيد الذي حقق بلا شك خرقاً في جدار الهيمنة الأيديولوجية الأوروبية الموصدة بإحكام أمام بقية الشعوب، وكذا معضلة تابعيه الكثر، هي أن محاورهم الرئيس يبقى دائماً شبح الرجل الأبيض، في محاولات لا تنتهي تتوسل إثبات شيء له، أو لومه وتقريعه بقصد إشعاره بالذنب، أواكتساب اعتراف ما منه بالاستحقاق أو غيره، حتى تنتهي كل إرادة للفكاك من هيمنة الغربي إلى تأكيدها. لكن، ومع حصافة رؤية دباشي، فإن ما يقترحه لا يرقى إلى مستوى الاستراتيجيات، بل مجرد توجيهات تكتيكية، وهو يصفها بالفعل هكذا: "تكتيك حرب العصابات (اضرب واهرب)"، حين ينصحنا مثلاً بتفادي وضع كل خططنا الهجومية في مواجهة إيديولوجيا واحدة، ويحذرنا من أن نحتشد جميعاً في مكان واحد، ويضيف إلى هذا أمل أو ربما رجاء في ألا نصل مطلقاً إلى إجماع نهائي على معنى الهيمنة.
ومع أن توجيهات دباشي تفتقد إلى المعيارية عن عمد، فإن منطلقاتها قد تكون هادية لنا في تساؤلنا عما بقي من "الاستشراق" وميراث إدوارد سعيد بالعموم، بعد عقدين من رحيله (رحل في 24 أيلولمسبتمبر 2003). صار سعيد علامة فارقة بلا شك بعد قيامه بإعادة ترسيم حقل النقد الأدبي وتأسيسه حقولاً كاملة باسمه في الدراسات الثقافية. أما في شأن قضيته الخاصة، فإنه حوّل القيود التي تفرضها مفاهيم المحلية والنعرة الأصلانية إلى لغة عامة وعالمية وقابلة للتداول، قدم عبرها قضية فلسطين إلى العالم. كل هذا مفروغ منه، ولا يحتاج إلى مزيد من التأكيد اليوم، إلا أن ما يلزمنا لاستشراف المستقبل هو النظر إلى ما عجز عنه سعيد، لا ما حققه، وفحص مناطق القصور ونقط العماء في أعماله، أكثر من بذل المديح (الذي يستحقه بلا شك) في ذكراه.منذ صدوره، صار "الاستشراق" في منزله الكلاسيكيات الكبرى، بالمعنى الإيجابي والسلبي أيضاً، أي أنه الكتاب الذي يستشهد به الجميع ولا يقرأه أحد. هو الكتاب الذي ترك أثراً كبيراً كما يستحق بالتأكيد، وفي الوقت نفسه، حظي بإساءة استخدام أكبر. فقراءات متعسفة وجدت فيه فرصاً سانحة للنبش عن شرق حقيقي ونقي غير مشوّه، وتوظيف ذلك في تدعيم أصوليات متوهمة. بمد الخط على امتداده، وُظفت العدة النظرية المابعد كولونيالية، أحياناً كثيرة، في الدفاع عن قمع الأنظمة السياسية المحلية لمعارضيها، وكذا لتبرير عنف الحركات الدينية الأصولية ضد النساء والأقليات، وذلك كله باسم التصدي للهيمنة الغربية. باكراً، يقرّ سعيد نفسه بتلك الاستخدامات، أو ما أسماه هو "الطفرة البورخيسية" التي حوّلت كتابه إلى "لغات ونصوص وتأويلات وغايات مختلفة... غريبة ومقلقة، وتتشكل بطرق لا يمكن التنبؤ بها". تصل تلك القراءات إلى مداها، حين تنقلب محاولات تحرر التابعين من الهيمنة إلى التكلم بلغة مضطهديهم، بتلك الطريقة التي تحول بها ورثة سعيد، أمثال جوزيف مسعد، أي القفز من مهمة التحدث باسم "الشرقيين" أو منحهم حق الكلام إلى التحدث ضدهم وبالتعالي الاستشراقي ذاته بل وأكثر منه أحياناً. هكذا يُقدّم السكان الأصليون كقرابين حقيقية على مذبح العناد الفكري ضد الهيمنة البيضاء.
(حميد دباشي)لم يقصد سعيد رفع الستار عن شرق حقيقي، بل كان البديل الذي قدمه هو إنقاذ الإنسانوية الأوروبية عبر النقد الديموقراطي، إنسانوية سعيد الجريئة والعنيدة هي ما جعلته متقدّماً وفعالاً سياسياً، وعلى النقيض مكشوفاً نظرياً. لكن في كل الأحوال، يبدو لنا اليوم أن سعيد في استشراقه كان كمن يضرب حصاناً ميتاً. انهار الاستشراق تحت عبء تراكماته، قبل أن يصدر سعيد كتابه بأعوام، بل واليوم قد نتحسر على العمل الدؤوب والمنهجية العلمية للمستشرقين، مقارنة بدعاة المعرفة الاستهلاكية من خبراء نشرات الأخبار ومستشاري مراكز الأبحاث. ولا يقتصر التداعي على الاستشراق وحده. ففي الجهة الأخرى، نرى أن أشكال إنتاج المعرفة والمقاومة السياسية في حقبة ما بعد الاستعمار، أي الإسلامية المتشددة والقومية المناهضة للاستعمار واشتراكية العالم الثالث، قد استنفدت نفسها، إن لم يتحوّل الحكام باسمها إلى سادة أكثر قسوة وشراسة من المستعمِر القديم. إذاً، ما الباقي من نظرية ما بعد الكولونيالية؟ أو كيف يكون ميراث سعيد الغني والمتنوع والوفير صالحاً اليوم؟ بالرجوع إلى حميد دباشي، فإن الخطوة الأولى والأكثر جذرية لحمل عمل سعيد قدماً هي التوقّف عن مخاطبة محاور ميت. وإن كان علينا الإنصات إلى صيحة دباشي الواثقة "أوروبا قد ماتت"، ببعض التشكك، والتعامل بالقدر نفسه من الريبة مع هتافه الآخر، "يحيا الأوروبيون، لقد مات الإسلام الذي كانوا قد اخترعوه من استشراقهم". هناك الكثير من الحصافة في اقتراحه بأننا لم نعد مخلوقات ما بعد استعمارية، لأننا بالفعل قد أصبحنا "كونيين تحت وطأة الاستعمار الذي سعى لجعلنا محليين"، وبالمثل يبقى اقتباس أخير منه بشأن تقسيم عالم اليوم، جديراً بالتأمل: "لا تفرض الخرائط السياسية لتلك القوة شرقاً وغرباً، ولا تعرف مركزاً أو هامشاً. إنها خرائط رأس المال المعولم".