لعلّ كثراً لم يحسبوا لنشوء بوادر صدام مبكر بين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والسلطة السياسية، بل “سلطته” كما يردد القائلون بالشراكة التي يتهمون بها الحاكم والسلطة السياسية في مآل الانهيار الذي عصف بالبلاد، ولكن مؤشرات هذا الصدام ارتسمت على نحو واقعي فعلاً. ذلك انه غداة بدء اطلاق إشارات البحث في كواليس السرايا وعين التينة ومقار سياسية أخرى في الاتجاهات المحتملة عقب مأزق اصدار القضاء الفرنسي مذكرة توقيف في حق سلامة وتداعيات هذا التطور على الواقع الداخلي والمالي والمصرفي، وفي ظل ما أوردته “النهار” امس عن رفض الحاكم الاستقالة بناء على طلب رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، لم يكن اول حديث علني لسلامة بعد هذا التطور سوى مؤشر جدي على بداية مسار تصادمي بينه وبين “السياسيين” الذين دعا الى ملاحقتهم قضائيا قبله. والحال ان المعطيات المتجمعة عن ملف الملاحقة الفرنسية لسلامة، وتاليا التداعيات التي رتبها اصدار مذكرة التوقيف، ولو لم يتبلغها لبنان رسميا بعد من الانتربول اومن القضاء الفرنسي، كشفت ان البحث الحكومي والسياسي في الاتجاه الى “اقالة” الحاكم وتعيين حاكم اصيل مكانه بدأ يتوغل بجدية وسط ارتباك كبير على المستوى السلطوي (الحكومة ورئاسة المجلس) لم يكن تبدد حين غادر ميقاتي بيروت الى جدة بعد الظهر، وارجئ بت كل شيء الى ما بعد عودته. وكان الوزراء تبلغوا امس دعوة من السرايا الحكومية لحضور جلسة لمجلس الوزراء يوم الجمعة ٢٦ أيار الجاري بعدما تلقوا ايضا دعوة لحضور “لقاء تشاوري” يُعقد في الرابعة بعد ظهر الاثنين المقبل في السرايا “للبحث في الامور الراهنة” والتي فهم ان ابرزها تداعيات مذكرة التوقيف الفرنسية بحق حاكم مصرف لبنان وملف النزوح في ظل ما سيصدر عن القمة العربية في جدة اليوم . وثمة معطيات تحدثت عن تداول اولي لخيار الإقالة اذا استمر سلامة في رفض الاستقالة قبل نهاية ولايته، وما شجع هذا الاتجاه خصوصا الموقف المفاجئ الذي اخذته “القوات اللبنانية” التي تقدمت أولا حملة المطالبة باستقالة سلامة ثم منحت حكومة تصريف الاعمال شرعية ودستورية تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان بما يوفر “ميثاقية” مسيحية واسعة لخطوة مماثلة بعد مطالبة “التيار الوطني الحر” والكتائب باقالته. وفي حال اصطدام خيار التعيين بالبديل والخلافات على اسمه وفق ما هو مرجح، فان الحل الوحيد القانوني المتاح سيكون، في حال مضت الحكومة نحو اتخاذ قرار بإقالة سلامة، الاتفاق المسبق على تسلم النائب الأول لحاكم مصرف لبنان مسؤوليته في خلافة الحاكم وفق ما ينص عليه قانون النقد والتسليف. ولكن بدا واضحا ان كل هذه الخيارات دارت في اطار افتراضي لا اكثر بدليل تريث الأوساط القريبة من رئاستي المجلس والحكومة في الجزم باي اتجاه بعد بما يعكس التهيب الذي ساد السلطة حيال تداعيات هذا التطور.
حديث سلامة… ورد مراجع
اما معالم الصدام بين سلامة والسلطة، فبرز في طيات حديث سلامة الى محطة “الحدث” التلفزيونية داعيا عبره الى بدء التحقيقات مع السياسيين أولا. واللافت ان سلامة بدأ حديثه بالتشديد على أن المصرف المركزي “مستعد لشراء كل العملة المحلية في السوق وانه سيتدخل ولن يسمح بانفلات سعر الصرف أكثر”. وقال أنّه “متعاون مع القضاء وان تحقيقات صندوق النقد تظهر ألا تزوير في ميزانيات مصرف لبنان”. واعتبر أنّ “التبليغ من قبل القاضية الفرنسية لم يكن وفق أصول الاتفاقية بين لبنان وفرنسا”. وأضاف: “طلبنا من القاضية الفرنسية تبلغينا بحسب الأصول وهي رفضت”، لافتاً إلى أن “كل الضجة القائمة حول التحقيقات الفرنسية لا أساس لها”. وأكد أنه سيحضر أي جلسة تحقيق يتم تبليغه بها “بحسب الأصول”، معتبراً أن “المسار القانوني ظالم لكنني مستعد له”. واعلن انه “إذا صدر أي حكم بحقي سأتنحى”، قائلاً: “أنصح القضاء بالبدء بالسياسيين وليس بحاكم المصرف المركزي”. وقال “يستهدفون حاكم المصرف المركزي لأنهم يخشون استهداف السياسيين”. وشدد على أنّه لن يبقى في منصبه بعد انتهاء ولايته، معلناً أن “نائب حاكم المصرف المركزي سيتسلم حينئذ المنصب”.
وعلمت “النهار” ان حديث سلامة لم يلق ارتياحا لدى مراجع سياسية خصوصا لجهة “نصيحته” القضاء التحقيق مع السياسيين أولا. ونقل عن هذه المراجع انها لمست في موقف سلامة هذا رسائل للسياسيين وتهديدا لهم. وفي هذه المعلومات ان مرجعا رد على سلامة بالقول “ان البلد يبقى اهم من الأشخاص”.
وفي سياق التداعيات القضائية لمذكرة التوقيف الفرنسية اعلن القاضي جان طنوس الذي اجرى بصفته محاميا عاما تمييزيا بالتكليف التحقيقات الاولية في ملف سلامة ان “لبنان لا يسلم أي لبناني لأي دولة أجنبية، ولو كان يحمل جنسية أخرى، وبالتالي فإن أي مذكرة توقيف أجنبية صادرة ضد لبناني هي غير قابلة للتنفيذ قانونا ، مقابل ذلك ، يتوجب على لبنان محاكمة اللبناني بالأفعال الجرمية أساس إصدار مذكرة التوقيف بحقه”.
وذكرت مصادر قضائية ان مذكرة التوقيف الدولية اذا تسلمها لبنان ستطلب توقيف سلامة وتسليمه الى السلطات الفرنسية الامر المخالف للقانون اللبناني الذي ينص على عدم تسليم رعاياه الى دولة اجنبية ، وتاليا ان هذه المذكرة لن تنفذ في لبنان. والى ان يتسلم القضاء المذكرة من الانتربول فإن ما سيحصل ، وإنفاذا للقانون اللبناني ، فإن النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات يستدعي الحاكم وبعد الاستماع الى إفادته في صددها يصدر قرارا بمنعه من السفر ويتركه ويطلب الملف الذي أصدرت القاضية الفرنسية على أساسه مذكرة التوقيف .
اما في المواقف السياسية والنيابية التي طالبت باستقالة سلامة فاعتبر حزب “القوات اللبنانية” أنّه “لم يعد بالإمكان انتظار انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان من أجل تعيين حاكم جديد، إذ “بعد صدور مذكرة دوليّة في حقّه أصبحت لِزاماً استقالته وإقدام الحكومة على تعيين فوري، لأنّه على أثر المذكرة الدولية لن تتعامل معه الهيئات الدولية من الآن فصاعداً، الأمر الذي يفاقم المأزوميّة الماليّة ويؤدّي إلى تعقيدها وتطويرها”. وطالب كلّ من حزب الكتلة الوطنية و”تيّار التغيير في الجنوب”، و”لقاء الشمال ٣ ” ومنظمة “كلنا إرادة”، و”خط أحمر”، و”عامية ١٧ تشرين”، وحزب الكتائب ، حزب “تقدّم”، انتفض للسيادة، للعدالة (طرابلس) وعكّار تنتفض، باستقالة سلامة الفوريّة، “التزاماً بمبدأ المحاسبة، وحماية لشعب لبنان”. كما اصدر “النواب التغييريون” الياس جرادة، فراس حمدان، سينتيا زرازير، ملحم خلف، نجاة عون صليبا، إبراهيم منيمنة، شربل مسعد، ياسين ياسين، بولا يعقوبيان وحليمة قعقور، بيانا مشتركا طالبوا فيه بإقالة سلامة ومحاكمته معتبرين أنّ مذكّرة التوقيف الفرنسيّة في حقّه “توّجت مساراً طويلاً من الملاحقات القضائيّة التي كشفت الطريقة التي كان يُدار بها المصرف المركزيّ، طوال العقود الثلاثة الماضية، والتي أفضت إلى أحد أكبر الانهيارات المصرفيّة التي شهدها التاريخ الحديث”.
لبنان في القمة
وطغت تطورات ملف الحاكم على المشاركة اللبنانية في قمة جدة العربية حيث وصل ميقاتي بعد الظهر لترؤس وفد لبنان الى اجتماعات القمة . وسيركز ميقاتي في كلمته في القمة على ملف النازحين السوريين وضرورة اعادتهم الى ديارهم، وسيدعو القادة العرب الى مساندة لبنان خاصة اقتصادية وماليا، وايضا سياسيا للوصول الى انتخاب رئيس للجمهورية.
غير ان اللافت في “المواقف ” الرسمية المتعددة التي استبقت القاء كلمة لبنان في القمة ان وزير الخارجية عبدالله بوحبيب ذهب امس الى مقارنة عقبات عودة النازحين السوريين الى بلادهم بعودة المغتربين اللبنانيين الى لبنان ! وقال أن “العنوان الأوحد للقمة العربية هو “صفر خلافات” حيث لم يحصل أي خلاف بين الدول على صعيد المقررات”. ولفت الى ان “ما سمعناه من الحكومة السورية هو الترحيب بالنازحين السوريين تحت مراقبة الأمم المتحدة للتأكد من سلامتهم وهم لا يستطيعون فعل المزيد ونحنا عنا مغتربين ما فينا نلزمهم بالرجعة”. وفي الملف الرئاسي قال: لا يمكن للخارج أن يفرض علينا رئيساً بل يمكنه أن يساعد في انتخابه أكان هذا الخارج عربياً أو أجنبياً”.