معرض هانيبال سروجي، المقام لدى "غاليري جانين ربيز"، وذلك تحت عنوان "أعمال نقطة الانهيار"(Breaking Point Works) هو معرض استعادي لأعمال الفنان. لكن هذا الطابع الاستعادي يمكن النظر إليه من وجهتين من حيث طبيعته. فهو، من جهة، يعرض على المتلقي أعمالاً بعيدة، نسبياً، في الزمن، ومن جهة أخرى، يستعيد حقبة ماضية من تاريخ هذا البلد، وتحديداً تلك الفترة التي تلت مباشرة ما اعتبُر نهاية للحرب الأهلية اللبنانية، السيئة الذكر.
تعود أعمال هانيبال سروجي المعروضة، إذاً، إلى فترة حاسمة في تاريخ بلده لبنان، كما تفيد النشرة المخصصة لهذا النشاط الفني، إذ تتوزع تواريخها بين نهاية ثمانينات القرن الماضي والأعوام الأولى من تسعيناته. لم تكن تلك الأعوام واضحة المعالم بعد، كما هو معروف، إذ كان يُنظر إلى البلد وكأنه على وشك الخروج من مستنقع عكر غمرت مياهه الجميع لفترة امتدت 15 عاماً. يقول سروجي إن المناخ الذي ساد الأعمال، التي نحن في صددها، تم تصوّره في ظل الهدوء والفراغ اللذين أوجدتهما "نهاية الحرب الأهلية". على هذا الأساس، تعكس هذه اللوحات حالة زمنية معينة، في وقت كان من الممكن احتواء الأمور وإطالة أمدّ الهدوء، وتجتمع فيها رؤى مختلفة للفضاء والذكريات، والحالات الذهنية الزمنية.
على أن هذه الحالة الذهنية لم يجرِ النظر إليها، من قبل الفنان، كواقع موضوعي واضح المعالم، ويتّسم، في الوقت نفسه، بمزايا يمكن أن تتجسّد عناصر تشكيلية تمثيلية تسمّي الأشياء بأسمائها. وإذا كان من الصعب أن يُصار إلى تصوير حالات ذهنية بأدوات تقليدية، لكونها تلتصق بالنفس الإنسانية ذات النزعات المتناقضة، فإن سروجي يقترح مراجع مختلطة بين رؤى من الداخل والخارج. في حالات كهذه، تصبح هذه الافتراضات النفسية حافزاً إلى سلوك دروب التجريد، وهو ما أقدم عليه الفنان، وكأن هذه الدرب تتطلّب وجود علاقة مريحة تعبّر عن وحدة الوجود بين الإنسان وظواهر العالم الخارجي. وهو، أي "هذا الميل إلى التجريد، يأتي حصيلة إضطراب داخلي كبير توّلده في الإنسان ظواهر العالم الخارجي، وهذا يتوافق، حسب المفهوم الديني مثلاً، مع النزوع إلى التسامي لدى جميع الأمم"، على ما يشير المؤرخ والناقد الألماني ويلهلم فورنغر في كتابه "تجريد واعتناق" (1907). لدى السروجي، تتم حياكة اللوحات بذكريات المساحات المتناسقة الماضية، ومن خلال فترات زمنية ممتدة، ويستكشف العمل لديه، بشكل مجرّد، آثار الأوقات غير المؤكدة. هكذا، يصمّم كل عمل فنّي ضمن هيمنة لونية مختلفة عن سواه، بنتيجة فحص العلاقة الحميمة، والآثار التي خلفها الصراع، والحقول والأسطح الملونة المفعمة بالأمل.
في الأعمال المعروضة، ثمّة سعي إلى قرارات بصرية، تدخل ضمنها أفعال خطوطية ورسوم متحرّرة من قيود التمثيل، وكأنها اختلاجات نفسية ترتسم أشكالاً من الصعب تحديد هويتها، لكنها، وبحسب الصانع، تقف على حافة اليأس، بينما يعطي اللون نظرة متفائلة تجاه ما سيأتي لاحقاً. هكذا، يلتزم سروجي مبادىء إصطلاحية تنظم العلاقة بين الأشياء، وتعيد صياغتها داخل المساحة التشكيلية، وذلك انطلاقاّ من مفاهيم جمالية لم تأخذ في الاعتبار تمثيل العالم المرئي، أو محاكاته، كما ذكرنا، بل محاولة تفسيره مجازياً، والتعبير عنه بأشكال مجرّدة. هذه الأشكال قد تكون التعبير التلقائي عن التوترات الدينامية، وربما استمدت منابعها من العالم المرئي، لكنها تأتي محوّرة، وما علينا سوى السعي إلى ترجمتها وتأويل أشكالها، بعدما تُختزَل في مساحات وألوان وخطوط مبسّطة. ذلك أن في تناغم الألوان، وفي موسيقية العلاقات الخطّية، هناك ما يكفي لإيجاد لغة تعبيرية.يوظف سروجي الألوان والعلامات كمؤشر للوقت، في محاولة لالتقاط حالة انتقالية، ومع ذلك، دائمًا ما يمتد مجالًا زمنيًا ضعيفًا، ويربط بين الماضي والحاضر. تُجمع في هذه الأعمال بين فورية الإيماءة مع عناية كبيرة بالسيطرة على العمل وعلى البنية والتعقيد، وفي الحالات كلّها، توفر لوحاته مساحة للتأمل في مجرى الحياة وتضارب مراحلها.
نبذة
هانيبال سروجي من مواليد العام 1957، ويعيش ويعمل بين بيروت وباريس. حاصل على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من جامعة كونكورديا في كندا (1987). شغل مناصب تدريسية مختلفة في جامعات في الولايات المتحدة وكندا، وكان يدرّس في جامعة السوربون في باريس قبل التحاقه في الجامعة اللبنانية الأميركية، في العام 2010، حيث يشغل اليوم منصب رئيس قسم الفنون والتصميم كأستاذ مشارك في النواحي العملية.
أقام سروجي العديد من المعارض الفردية والجماعية لبنان والعالم. "Breaking Point" هو المعرض الفردي الثامن لسروجي بالتعاون مع "غاليري جانين ربيز". وقد عُرضت أعماله في "آرت دبي"، و"أبو ظبي آرت"، و"آرت 14" لندن، ومعرض بيروت للفنون. اقتُنيت أعماله من قبل مجموعات عامة وخاصة بارزة، مثل "Alcan Collection" في كندا، و"Carmignac Foundation" في فرنسا. في عام 2013 ، قامت غاليري جانين ربيز، ممثلة له في لبنان، بنشر كتاب بعنوان: "هانيبال سروجي: رسم النار والماء والأرض والهواء". هذا، كما تمثله أيضًا غاليري جون كيلي في نيويورك، وغاليري يولينسبيجل في بازل بسويسرا.
(*) يستمر المعرض حتى 24 أيار/ مايو 2023 في غاليري جانين ربيز – الروشة، بيروت