لعلّ الحديث عن عراقة التعليم العالي ودوره الصلب والعنيد في تمكين الشباب اللّبنانيّ ونهضته وتمايزه عن شعوب المنطقة، لحدٍّ ما مألوف ومكرّر، لكنّه في الوقت عينه، بات حديثًا ملّحًا وملزمًا. فبعد سنوات من المكابدة والمثابرة التّي انتهجها الشباب الطامح بالتغيير مراهنًا على تفوقه العلّمي والثقافي، واجتراح المعجزات بصمتٍ وتبتّل، في بلدٍ ممزقٍ ومنكوب، تمكنّت السّلطة وأخيرًا وبعد مساعٍ حثيثة، من الإطاحة بهذا الطموح، كما أطاحت بأحلام الشعب اللبناني بأكمله، عبر تسليع كافة الحقوق والحريات في بلد "الدولار الطازج".
واليوم، وبعد حوالى الثلاث سنوات ونيف، على وصول لبنان إلى الدرك الأسفل من الانحدار الاجتماعي والشّلل الإداري والانهيار المالي والاقتصادي، يقف الشباب اللبناني عاجزًا، أمام هول فاقته المعيشية.. فيما لم يعد الإفقار في لبنان محصورًا بالفئات محدودة الدخل أو التّي تعيش على الحدّ الأدنى للأجور وبالليرة اللّبنانيّة، بل انسحب ليشمل مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية باختلاف مشاربها وأفلاكها.
ومع تبخر الطبقة المتوسطة، وتضاؤل نطاق الطبقة الميسورة، بفعل الأزمات متعدّدة الصُعد، بات التعليم العالي الكفوء والجديّ على وجه التحديد، حاجة كمالية وامتيازًا، اضطر للتخلي عنه، قدرٌ لا يُستهان به من الطلاب، بعد أن كان نمط عيش واستثماراً يودع فيه اللبنانيين أملهم بصعود السّلم الاجتماعي والترقيّ الاقتصادي والتمايز الثقافي.واقع التعليم العاليفمن جهة، وبعد أن اتجهت غالبية الجامعات الكبرى الخاصة، في آخر سنتين لدولرة أقساطها المرتفعة أساسًا وتقليص المرونة السّابقة في منح المساعدات والاستثناءات الاجتماعية والماليّة لأصحاب الدخل المحدود، أدّى هذا الواقع لتضييق الخناق أكثر على الأغلبية السّاحقة من الطلاب غير القادرة على تحمل أي تكاليف إضافية، وتهجيرهم من كنف التعليم الخاص بسمعته وآفاقه المفتوحة إلى التعليم الرسميّ المتعثر والمأزوم. ومع اتساع حزام الهجرة الطلابيّة هذه، نحو الجامعة اللبنانيّة برسومها شبه الرمزية (بالرغم من زيادتها مطلع العام الدراسي الحالي)، وبين الإضرابات والتعليم عن بُعد وهيمنة المحسوبيات والانحدار المزمن في المستوى التعليميّ بمناهجه المتحجرة، التّي لا تراعي تطور العلوم وديناميكيته، ورداءة التنظيم الإداري، وفداحة البيروقراطية، وصولاً للإفلاس والتوقف القسري.. وجد الطلاب أنفسهم في معرض التهجير القسريّ من كنف التعليم العالي مجدّدًا.
وعليه، بدأت كليات الجامعة اللّبنانيّة على مساحتها الوطنيّة، تنزف فئة واسعة من طلابها، التّي انقسمت بين الطلاب الذين أنفوا اضمحلال آمالهم لصالح انهيار الجامعة وتكاليفها التّي صارت عبئًا عليهم، وبين الطلاب الذين تحولوا إلى عمال وعاملات، يسعون وراء لقمة العيش وتأمين الدخل السّريع، والطلاب المتخرجين حديثًا من الثانويات (الذين بغالبيتهم لم يحظوا بتعليم جديّ في سنواتهم المدرسية الأخيرة). وبذلك تكون الأزمة الاقتصادية المحرك الحيويّ لهذه الظاهرة،بحيث اضطر طلاب الجامعة اللّبنانيّة إلى خفض إنفاقهم على التعليم في سبيل المستلزمات الحياتية الأولية من الغذاء، والدواء، والمسكن، وغيرها. أما الطلاب الذين توجهوا للهجرة نحو الجامعات في الخارج، فتتضاءل نسبهم تدريجيًا، نظرًا لصعوبة تأمين تكاليف السّفر وتأشيرات الدخول، والتسجيل في الجامعات.
الأمر الذي واجهته طالبة الجامعة اللبنانية السّابقة، إسراء عباس، التّي اضطرت للتخليّ عن تعليمها الجامعي بسبب تعثر ظروفها وأسرتها المعيشية، قائلةً: "كنت أدرس إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية فرع الحدث، قاصدةً الكلية من منزلي في الهرمل. في البداية حاولت التقشف الشخصي لتأمين تكاليف التنقل من الهرمل إلى بيروت، ومع صعوبة إيجاد سرير إلى جانب الجامعة، زادت معاناتي. فقررت التخلي عن تحصيل شهادتي مؤقتًا، حتّى أجمع المال الكافي من مهنة التعليم الخصوصي التّي أزاولها لتلبية حاجات أسرتي، والإدخار في سبيل استكمال تحصيلي العلمي لاحقًا". مؤكدةً أن القرار كان صعبًا لكن لا بد منه، ومع انغلاق السبل أمامها فضلت إسراء المكوث في قريتها ومزاولة أي صنعة أو مهنة متواضعة، والالتحاق بأحد المعاهد الرسمية في مجال المحاسبة.الاستعاضة عن التعليموإن كانت ظاهرة "التسرب الجامعي" إن صحّ تسميتها، هي ظاهرة قديمة العهد، برزت في الحقبة الممتدة بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي والتّي اضطر فيها الشباب لترك مقاعد التعليم وامتشاق أسلحتهم، للمشاركة في الاقتتال الأهلي، وما يسبقها من فترات كان فيها التعليم الجامعي المتمركز، حكرًا على سكان مدن السّاحل إجمالاً (وعاود هذا العامل الظهور مجددًا مع ارتفاع تكاليف المواصلات لطلاب الأرياف والأطراف اللبنانية). تتجدد هذه الظاهرة اليوم، وتجدد معها العوامل والأسباب والحلول الظرفيّة فضلاً عن الارتدادات.
يُشير سامر م. لـ"المدن" إلى العوامل التّي جعلته يتوقف عن متابعة تحصيله لشهادة اللغة الإنجليزية من الجامعة اللبنانية، قائلاً: "كنت أقصد الكلية من الجنوب، ولكون اختصاصي يندرج تحت المجال الأدبي بما يتعارض مع الطلب في سوق العمل اللبناني، الطافح بالخريجين حاملي الشهادات الأدبية، وبالتالي لم أتمكن من إيجاد فرصة عمل براتبٍ مناسب، يسهم في تخفيف ضائقتي الاقتصادية، ويعينني على استكمال شهادتي.. وعليه، قمت في البداية بالتدريس الخصوصي، وبالراتب المتواضع صرت أسجل في دورات افتراضية وورش تدريبية، لتعويض النقص الأكاديمي، مع معرفتي المسبقة أن كل هذه الورش لا تُغنيني عن الشهادة، لكنها أعانتني في عملي الحرّ بالترجمة والكتابة والتدوين".
للتآلف مع واقعهم الحتميّ، عَمد رهطٌ من الطلاب للاستعاضة بالتعليم الأكاديمي، بالدورات الافتراضية شبه المجانية، وورش العمل المرتبطة باختصاصاتهم، والتّي تُسهم في تدعيم سيرهم الذاتية والانخراط بسوق العمل. أما رهطٌ آخر فلجأ للاستحصال على شهادات وهمية ومزورة من جامعات وهمية في مختلف أنحاء العالم، وخصوصاً دول الاتحاد السوفيتي سابقًا، والتّي تكون بأسعار مناسبة لحدٍّ ما، موفرين على أنفسهم مشقة التعلم والسّعي وراء الشهادات المُصدّقة والحقيقية. سواء للاستفادة منها بالتوظيف في المؤسسات الحكومية أو الخاصة أو كان هدف حصولهم عليها هو فقط لأغراض السمعة والوجاهة. وقد راجت في السنوات الأخيرة، هذه الظاهرة واستفحلت بالرغم من كل المحاولات لتقويضها، خصوصاً عندما عمدت بعض الجامعات اللبنانية الخاصة لبيع مثل هذا الشهادات المزورة للطلاب الأجانب واللبنانيين على حدٍّ سواء.سوق العمل اللبنانيمع حيازة أعداد ضخمة من الجامعيين شهادات في تخصصات لم تعد تستوعب المزيد من الإقبال عليها، وفي ظلّ غياب أجهزة التأهيل والتوجيه الجامعي والمهني، ومع هجرة المزيد من طلاب الطب والهندسة والمحاماة (أكثر الاختصاصات التّي يسعى لشغلها الشباب اللبناني للوجاهة الاجتماعية التّي تترتب عنها) من الجامعات الخاصة التّي تستوفي أقساط خيالية لهذه الاختصاصات، نحو الجامعة اللبنانية، التّي لم تعد لديها أي قدرة استيعابية لهم هي الأخرى، بات مؤشر بطالة الشباب في لبنان بسبب شهاداتهم التّي لا تتوافق ومتطلبات سوق العمل مقلقاً جدًا.
وفي تقرير أعدته منظمة اليونيسف منذ عامين، أشارت فيه لكون 31 بالمئة من الشباب اللبناني خارج دائرة العمل والتدريب والتعليم، ويبدو أن النسبة زادت طبعًا مع استفحال الأزمة مختلفة الأوجه، ومع إقفال المزيد من المؤسسات التّي تستقطب حاملي الشهادات وتوقف التوظيف في القطاع العام والسّياسات الاستنسابية في قبول الموظفين، التّي يعتمدها غالبية أرباب العمل، ناهيك بالتنافس الوظيفي الذي يفرض نفسه، لم يعد متاحًا لغالبية هؤلاء سوى العمل في القطاع السّياحيّ والخدماتي، أو البحث عن فرص عمل متواضعة في دول الخارج، نظرًا لانعدام حافز البقاء في بلد بلا أفق.
مأزق التعليم الجامعي في لبنان ولا سيما الرسمي منه يندرج بسائر الأزمات اللبنانية وهو في استفحال مطرد. ومن الجليّ صعوبة حلّه على أساس نظري أو لوحده بمعزل عن سواه، فتراكم العجز والخلل والإفلاس والمديونية جعلا من شبه المستحيل إيجاد أي مخرج فعليّ للأزمة، سوى العودة بالزمن ومحاسبة النهاشين والقاضمين لأولى موارد واستثمارات الشعب اللبناني بشيبه وشبابه تحديدًا.